المجلة العالمية الشهيرة (فوربس) التي تصدر قوائمها باستمرار في إحصاء ثروات الأفراد، والشركات الكبرى، ومصادر المال، لا تنسى أن تصدر أيضاً قوائم سنوية حول مَنْ هم الأكثر نفوذاً، وكذلك تأثيراً في العالم، وخاصة في المجال الاقتصادي، والإعلامي من شخصيات ليست بالضرورة أن تكون تحت الأضواء، أو أنها ذات شهرة، إذ يكفي لاختيارها أنها مهرت اسمها بأثرٍ مميز في مجالها.
ومَنْ لا يتابع إصدارات هذه القوائم، ومثيلاتها وخاصة في نسختها العربية التي تلقي الضوء على أناسٍ ربما يعيشون بيننا دون أن ندري، عندئذ لن يتعرف إلى المؤثرين الحقيقيين الذين اختيروا من بين آلاف الأشخاص في الشرق والغرب للاعتراف بهم، وبإنجازاتهم على أنها ذات أهمية، وتأثير كبير يستدعي الوقوف عليه، والتعريف به.. إلا أننا لا نعرف شيئاً عن هؤلاء الذين يعملون بصمت دون أي ضجيج، وكل هدفهم، وطموحهم هو الإنجاز المتفوق، أو على الأقل المثمر، والمنتِج في أعلى درجاته. وما لم تبادر المجلات المختصة إلى نشر أسمائهم لما عرفنا عنهم شيئاً، ولا عن مسيرة مهنية متألقة تصلح لأن تكون نموذجاً يحتذى به، ولبقيت تلك الاسماء مجهولة منا، ومغيبة عنا حتى ولو بلغت القمة في العطاء، أو لو قطفنا ثماراً مجهولة، هي في حقيقة أمرها ثمار جهودهم الفائقة في أي مجال كان.
لكن أناساً آخرين لا يدخلون في قوائم فوربس، ولا في غيرها، ومع ذلك تلتمع أسماؤهم بين عشية وضحاها، وتنطلق كما الأسهم النارية، فيتعرف الناس إليهم بسرعة البرق، وإذا بهم يتابعونهم عبر صفحات التواصل الاجتماعي، والمواقع الأخرى التي تفتح أبوابها للراغبين في الشهرة قبل المال مادام هوس الشهرة قد أصبح داء العصر الذي يصيب كثيراً من الناس بما أن القنوات التي توصل لذلك تتنوع، وتتعدد تحت مظلة الرقمية العالمية، وقد أبهرت بإمكاناتها الواسعة ولو ضاقت الرؤية في استخداماتها.
هؤلاء أصبحوا ممن يدعون بالمؤثرين، والأسم الشائع هو (إنفلونسر)، والفضل في هذه التسمية يعود للأعداد الكبيرة من المتابعين لهم، وهم يرصدون أنشطتهم، وكل ما يزودون به قناة التواصل التي اختاروها عبر شبكة المعلومات سواء من تعليقات، أم صور، أم فيديوهات ذات محتوى ما، ليس بالضرورة أن تكون ذات قيمة تستحق معها أن تعرض على الملأ، ولا يهم إن كانت لا تعجب كل من يطلع عليها، أو أنها تنال الاستنكار أم الاستحسان، وكل ما يهم هو تلك الأعداد التي تتزايد كالطحالب التي تغزو جداراً رطباً.
وبخطوة تليها خطوة ينتقل المتطلع إلى الشهرة، ومن خلال تركيزه على قناة اتصاله التي يطل منها على مَنْ يقابله، أقول ينتقل من التسلية، والترفيه إلى حالة من الاحتراف حتى يصبح الأمر محوراً لدائرة حياته يدور فيها كلما غذّاها بكل ما يدور في ذهنه دون تميز بين الجيد والرديء، والغث والسمين.. فتتسع الدائرة أكثر فأكثر حتى يفوز بعد وقت ربما قصير بلقب (مؤثر)، فيقتنع عندئذ أنه فعلاً كذلك، ولكنه لا يسأل في أي اتجاه هو فعلاً مؤثر!
وفجأة ينقلب الأمر به إلى حالة من التسويق لنفسه أولاً، ولما يريد أن يعلن عنه ثانياً، وعند هذه المرحلة يصبح هذا المؤثر عنصراً فعالاً في عملية التسويق الرقمي ليصبح بالتالي الرقم الرابح في معادلة البيع والشراء، وقد يباغته مصادفة إعلان يقول: (كتب قيّمة لا تهدر شبابك قبل قراءتها)، ولكن عينه لا ترصده، وكذلك أعين مَنْ ساروا في ركب تأثيره.. فيسقط الإعلان من تلقاء ذاته، إذ لا أحد يريده بديلاً عن تسلية ممتعة.
إلا أننا في الوقت ذاته لا نستطيع أن ننكر موهبة المؤثرين الجدد هؤلاء في استقطاب الجماهير، وجذبهم، لدرجة أن فروعاً جديدة في التسويق أصبحت واقعاً تعتمده الشركات للترويج لعلامتها التجارية، ودعمها، وسبر الآراء حول منتجها، وتوجيه القرار بالشراء، مادام المؤثر يملك مصداقيته عند متابعيه، ومادام التسويق الإلكتروني قد ساد دون عودة إلى الوراء.
وإذا كنا نقبل بهذه الصيغة الجديدة للتأثر والتأثير فلماذا لا يطرح المؤثرون عبر منصاتهم الرقمية محتوى أكثر جدية، وفائدة، يلامس هموم أبناء جيلهم من أزمات حياتية اقتصادية، واجتماعية؟ لعل حلولاً عملية تأتي من خلال عملية التفاعل المتبادل فيصبح الحال أفضل، والأثر أكبر، وتتسع الرؤية باتساع مدى المحتوى، فيزول العتب من أن السطحية ذات السطوة قد حلت مكان الفكر صاحب القوة، وأن التسلية قد حلت مكان الثقافة.
(إضاءات)ـ لينــــــا كيــــــــــلاني