الملحق الثقافي:عبد الحكيم مرزوق:
في الإهداء، كتب الشاعر “عبد الكريم الناعم” بضع كلمات، مقدِّماً فيها مجموعته الشعرية التي سماها “لكعبة الجنوب”، وفيها قال: “الكعبة المواجهة التي لا تختلف فيها”..
عبر هذه الكلمات، يحدِّد الشاعر بوصلة مجموعته التي حفلت بنحو ثلاثة وعشرين قصيدة، تحمل موضوعاً واحداً هو المقاومة، سواء أكانت في بيروت أم في فلسطين أم في العراق، ونراه منسجماً مع ذاته، حين يعبِّر عن ذلك الهمّ الوطني الذي لمسناه، ليس مجدداً، بل منذ بدأ يتلمَّس أبجدية الحروف التي تشرَّب منها، ذلك الهمّ الذي ما زال يرافقه إلى الآن.
“لكعبة الجنوب” مجموعة شعرية صدرت عن الهيئة السورية للكتاب، وفيها يتوقف الشاعر عند العنوان الذي اختاره لمجموعته، ولعل العنوان، كما في بقية مجموعاته الشعرية، يشكِّل هاجساً عند الشاعر، فنراه يقدِّم الأسباب التي دفعته لاختيار عنوان مجموعة، حملت الكثير من البوح، والكثير من الرؤى والأفكار، وأساليب التعبير التي تشكِّل بصمة واضحة في طريقة التعبير، فـ “عبد الكريم الناعم” في معظم قصائده، يبحث وراء الإدهاش ويجتهد في تقديم قصيدة لا يمكن لغيره أن يكتبها بالأسلوب ذاته، وبالنكهة ذاتها التي ألفها وألِفنا قراءتها عند “الناعم”.
يقول، إن هناك قصائد لا علاقة لها بالجنوب كجغرافيا، والجنوب عنده وفي تلك المجموعة، روح كل مقاومة، من قبل ومن بعد، والجنوب بما أنجزه (كعبة) تطوف حولها قلوب التواقين إلى نصرٍ يكون بحجم الجراح والآلام، فهو ليس غير العراق في مقاومته، ولا غير “غزة،” لذا يبدو الألم واحداً، والمعركة واحدة في مواجهة الخارج، كما في مواجهة الذين أفقروا الناس لتمتلئ خزائنهم، والمواجهة على الجبهتين واحدة في الحسم.
يضيف الشاعر “الناعم”، مبرِّراً صدور بعض العبارات والكلمات، في قصائد المجموعة التي وجدها “سليطة” في لحظةِ انفعالٍ صدرت:
“لن أعدم من يرفع أكثر من بطاقة حمراء في وجه الكلمات السليطة، بيد أنني كنت في اللحظة التي تستغرقني، أستجيب لانفعالات تلك الأوتار في الزمن المرهون، وأنا واحد ممن لا يستطيع الانتظار لحظة اندلاع الحريق، لأكون مراقباً يعد نفسه ليكون، تجويد الكتابة أولاً، تلك طبيعة فيّ حسب تعبير “الناعم، ويضيف: ألفت الانتباه إلى التوقف عند التاريخ المذيل في نهاية كتابة القصيدة، فهي ابنة زمنها الفيزيائي، قدر ما هي ابنة الحريق الداخلي، ولم يكن ذلك عن عجزٍ وأنا أدركه، وأحياناً لا يجد الشاعر ما يعبِّر عنه غير ألفاظ محددة، وعلى من يتشبث باحتجاجه أن يعود إلى العديد من دواويني الشعرية التي انصرفت منها النفس إلى التأمل، وإلى الصياغات الجمالية والبنائية المشغولة بروح الشعر وحده.. إن من يطأ أرضاً محروقة، لا بد أن تعلق بأقدامه آثار ذلك الحريق.
ويختم بالقول: في بعض القصائد، وخاصة “إنه الجنوب فانتظروا”، وما يطلق عليه النقاد “النبوءة” وهي موجودة عند عدد من الشعراء، وقد جاءت هكذا …
إن الزمن الذي كتبت فيه قصائد “لكعبة الجنوب” يبدأ من الثمانينات وينتهي عبر تسلسلها الزمني في عام 2009، ولعل هذا الامتداد الزمني مقصود، عبر القصائد الشعرية التي ربما كانت تؤرِّخ للمقاومة، التي انطلقت في الثمانينات في الجنوب اللبناني، وبدأت بتحقيق انتصاراتها المتتالية على الكيان الإسرائيلي، وربما اختيار عام 2009 يقترن بانتصار المقاومين في “غزة” على الكيان الغاصب في عدوان 2009، ونرى الشاعر في أولى قصائد المجموعة “فكيف تنام”، يجمع قصيدته المقاومة في أكثر من مكان، حين يعبِّر عن الظروف التي تحيط بالمقاومين، وكيف يمكن أن يقترب النوم من عيونهم:
تنامُ وأهلوكَ في النار؟!
كيف تنام
على “دجلة”
يعبرونَ الهواءَ فيعلو الدخان
وفي “غزة”..
يشطرونَ الحريق
فيلقي المكان بآخرِ بردٍ
على خطوهم
أن ينضو “الجنوب” الرعود
فما ثم بعد كلام
ويسهرُ بين الخرائبِ صوت “جنوبية”
عمَّدت روحها بغبارِ ثيابِ الحسين
فكيف تنام؟.
في قصيدة “بيروت ذاكرة” نرى الشاعر يعتمد أسلوب المقاطع التي يحكي لنا فيها، حكاية بيروت التي حملت في ذاكرتها الأوجاع والآلام والجراح، حيث يبدأ القصيدة بتمهيد شعري، وبعدها المقاطع التي تبدأ بـ: من أين تبتدئ الحكاية؟!!. لتكون بعدها بيروت، القنطرة والشاهدة التي لا تنام.
خابية
وللتُّرابِ حزنهُ
فارغة
وللجرارِ حلمها
مهجورة
وأنتِ تعلمين كيفَ تحفظ
الطيور سكَّة الإياب
يا بذرة لا تستفيق إلا حين
يشهق التراب.
أيضاً، في قصيدة “لكعبة الجنوب” نرى المزاوجة بين الأمكنة، فمن نخلة في جنوب العراق، إلى من ولد في الشام وفيه حنين الرافدين إلى مرج الزهور في الجنوب اللبناني، حيث نُفي عدد من المناضلين الفلسطينيين إلى العراق، والبرد والثلج لبضعة شهور، على مرأى ومسمع العالم:
على كربلاء العراق أراقوا دمك
ظلماً وبغياً
وهاهم على كربلاءِ الجنوب يرونك
تُسقى الصقيع
وبردُ العصور
بكفٍّ تبرَّأ منها الإله
فيجرون خلف الذي هو في موفيات
المحافل ذيب.
في المجموعة، أكثر من قصيدة، ومنها “قانا الأفئدة الجمر” و”فكشفنا عنك غطاءك”، حيث يعبِّر في شعره عن تلك المجزرة الرهيبة التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي:
شهداءُ قانا يخرجونَ الآن
من أجداثهم يتأبطونَ دماءهم
يتسللونَ من الممراتِ الخفيَّة
يحملونَ الخبز والحلوى
إلى أقصى الجنوب ..
شهداءُ قانا يفتحونَ قبورهم
ودفاتر الذكرى
وأبهى ما يكون من القلوب
إلى القلوب.
ثمة الكثير مما يقال في قصائد “لكعبة الجنوب”، وهي تستحق قراءات متأنية تدخل في عمق القصيدة والمغزى الذي أراده الشاعر منها، ولكننا أردنا أن نتوقف عند جزءٍ من الديوان، وما أراد الشاعر أن يقوله من خلاله.
إنها قصائد تستحقُّ وقفات أخرى، وقراءات أخرى، وأعتقد أن الشاعر أرّخ في هذا الديوان، لمرحلة مهمة من مراحل المقاومة في الوطن العربي، وقد قدَّم فيه بصمات واضحة، ولا يمكن أن تحيط به هكذا قراءة من بعيد أو من قريب.
التاريخ: الثلاثاء9-3-2021
رقم العدد :1036