الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
في زمن ليس بالبعيد كنا ننتظر بلهفة العاشق رائحة الحبر وملمس الورق الخشن ؟ أو المصقول، وكأننا على موعد مع لقاء مهم ..كنا ننتظر صدور الصحف الورقية والكتب المنوعة التي تصدرها المطابع يومياً، تتلهف لقراءة كتاب، أو ديوان أو مجموعة شعرية أو قصصية أو رواية …يأخذك الورق بعيداً إلى مدارج الحلم، تشعر بغبطة وأنت تصافح بأناملك هذا الكتاب أو ذاك، تتنقل بين مكتبة وأخرى، ومن معرض كتاب إلى آخر بحثاً عن عنوان جديد صدر للتو .. فجأة ومن غير موعد تغيّر الإيقاع وتبدلت الأحوال وأصبح الكتاب الورقي كما يقولون عملة نادرة، ليتحول النشر والطباعة والكتابة إلى الصيغة الإلكترونية أو الرقمية وهذا جاء مع ثورة الاتصالات وتفجر المعرفة وانتشار وسائل النشر الحديثة من أنترنت وتواصل اجتماعي و…. حتى دور النشر الرسمية أو الهيئات بدأت تنشر الكتب الإلكترونية على هيئة (pdf) أو غيرها من صيغ حديثة يمكن تصفحها وتحميلها عن الشابكة بوقت قصير جداً… هذا التطور الطارىء جاء نتيجة عوامل عدة لعلّ أهمها الثورة التقنية وارتفاع تكاليف الطباعة من ورق وحبر وتسويق و…عالمياً، مما أدى إلى تراجع الكتاب الورقي والمكتبات التقليدية أمام الكتاب الرقمي والمكتبات الرقمية، والتي أصبحت في متناول الجميع وبكلف مادية بسيطة .. ثمة أسئلة يمكن أن تُطرح ضمن هذا السياق :هل يمكن للكتاب الرقمي والمكتبات الرقمية ان تشجع على القراءة ؟ كونها متاحة في كل الاوقات والأمكنة حيث يمكن استخدام الحاسب المحمول أو أجهزة الهاتف الخليوي أو غيرها من وسائط ؟ وهل يمكن أن نقول وداعاً للكتاب الورقي الذي غادرنا عنوة ؟ هي أسئلة تواجه كل من له علاقة بالكتابة والنشر سواء أكانوا إعلاميين او أدباء أو أصحاب دور نشر، وفي ظل هكذا ظروف لا بد أن يجدوا أنفسهم ضمن هذا التيار الذي جرفهم دونما هوادة إلى عالم متسارع، متداخل، عالم النشر الإلكتروني والكتاب الإلكتروني والمكتبات الإلكترونية، والتي يراها البعض نعمة من حيث السرعة وسهولة القراءة والخيارات المتعددة بآن ٍ معاً، في حين يراها البعض نقمة حقيقية حرمت رواد القراءة والمهتمين من متعة القراءة واقتناء الكتب الورقية ضمن مكتبات تقليدية تتموضع فيها الكتب بطريقة جميلة وجذابة .. أياً تكن المعطيات التي بين أيدينا لا يمكن أن ننكر دور الكتاب الرقمي في تخزين المعلومات والبيانات والجداول والرسوم والصور بأحجام كبيرة، وسرعة فائقة، ويمكن عرضها بطرق مختلفة وبوسائل متعددة ،كما أنها متاحة للجميع من خلال الشابكة، هذا التطور المذهل والسريع دفع بالعديد من الشركات والهيئات والوزارات عالمياً إلى اعتماد الكتاب الرقمي في أعمالها ومراسلاتها توفيراً للجهد والوقت والمال .. بكل تأكيد تختلف الظروف والمعطيات بين بلد وآخر تبعاً للواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ؟ لكن في المحصلة لا بد من اغتنام هذه التقنيات لصالح العمل والفكر والثقافة والتربية، وهناك بلدان متطورة ومتقدمة خطت خطوات كبيرة في ميدان ما يسمى (الحكومة الإلكترونية )والكتاب المدرسي الإلكتروني الذي يستغني نهائياً عن الكتاب المدرسي الورقي .. هي رياح جديدة لا يمكن إلا تلقيها والاستفادة منها بأقصى طاقة ممكنة على رأي المثل (إذا هبّت رياحك فاغتمها ) وهذا ما نلحظه جلياً في مفاصل الحياة اليومية .. لا شك أنه لا يمكن الاستغناء عن الورق والكتاب الورقي والمكتبات الورقية نهائياً، لأن جميع هؤلاء يشكّلون ذاكرة حيّة للناس، تؤرّخ لثقافتهم وعلومهم وآدابهم وأنماط عيشهم، وتاريخاً للعلم والثقافة والأدب، ولا يمكن التوقف عن حدود النشر الإلكتروني فقط لأن إدارة تلك المنصات والمواقع تحكمها أياد ٍ ليست بريئة على الدوام ؟! لذلك يظل النشر الإلكتروني هشّ البنيان، سريع النسيان، ولا وجود له ويصبح هباءً في لحظة ما ؟!
العدد 1136 – 14-3-2023