فاتح المدرس… رائد الحركة الفنيّة الحديثة في سورية

الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
عُرف الفنان السوري فاتح المدرس بأنه رائد الحركة الفنية الحديثة في سورية، ثم بدأ بإدخال التجريد إلى أعماله خلال وجوده في أوروبا، إلى جانب مزج تقاليد الفن السوري مع التقنيات الغربية، بينما تفاعل مع الفنون الشرقية القديمة، ومزج التعبيرية الحديثة مع التراث المحلي والمخزون الثقافي العربي بالأسئلة الكونية ومشاغل الإنسان المعاصر، كما اشتهر بأفكاره الفلسفية ومقالاته في النقد الفني، عاكساً من خلال لوحاته التغيُّرات الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة، ومنها أزمة القطاع الزراعي في سورية، والحرب الأهلية اللبنانية، كما سعى لتصوير المآسي والصعوبات التي واجهت الإنسان، أما شخوصه فضجَّت بالجدِّيَّة والرصانة، وامتازت رؤوسه بالجمود، متَّخذةً شكلاً مربعاً يشبه التماثيل الآشورية والتدمرية والأيقونات المسيحية، بينما ركَّز في أعماله على الألوان الترابية مع الدسامة اللونية، واستخدم الرمل في ألوانه أحياناً، وكان شديد الحذر تجاه اللونين الأصفر والأخضر، بينما استخدم الأحمر في أعماله ذات المضمون السياسي، ومال للذهبي متأثِّراً باستخدامه في الفنون القديمة كالبيزنطية، كما استخدمه لقتل بعض الألوان في اللوحة. أما باقي الألوان فليسوا أساسيين في أعماله، باستثناء الأبيض.. لونه المفضَّل، إذ اعتبره سيد الألوان.. ومحبُّو اللون الأبيض هم أشخاص يتبعون النظام ويتوخون الدقة في العمل، كونه رمز الروحانية والسلام والطمأنينة، ولون الضوء حيث يوجد في الثلج والقطن والسحاب.. إلخ، كما يرمز للنقاء والنزاهة والبراءة والهدوء، في حين استخدم الأزرق وأعطاه طابعاً حيَّاً ومقاوماً شجاعاً بصورة ذكية ونبيلة إذ تأثَّر بنظرة الفنانين التشكيليين الحداثيين، الذين يرون أن اللوحة نتاج انفعالات محددة وصاحبة مكان وزمان معينين، لهذا وجد نفسه غير قادر على رسم أعمال مُكرَّرة تشبه بعضها البعض.
قال فاتح المدرس: (لسْتُ تعبيرياً في اتجاهاتي التشكيلية، ولست سريالياً، ولست تجريدياً؛ بكل بساطة أنا رسام سوري عربي حديث أرفض الأخذ بالمفاهيم المستوردة أو المسبقة الصنع.. أنا شاهد على جمال الأرض والإنسان، وشاهد أيضاً على أحزان عصري).
أحبّ فاتح كثيراً صوت الريح والأعمدة والأشجار والعيدان الصغيرة، وأول شخص اكتشف موهبته أستاذه في المرحلة الابتدائية، إذ كان يطلب منه رسم المناظر الطبيعية، وحين ينتهي من إنجاز اللوحة كان يتأملها بإعجاب كبير ويشجعه على المتابعة، ما دفع الفنان الصغير إلى المثابرة ومتابعة الفن، وهكذا بعد أن حصل التشكيلي فاتح على الثانوية سافر إلى بيروت ليدرس في الجامعة الأمريكية «لغة إنجليزية»، وبعد نيله الشهادة الجامعية عاد إلى حلب وعمل مدرِّساً، وبالمقابل شرع يُطوِّر موهبته الفنية ويوسِّع ثقافته ومداركه العلمية، فشارك عام (١٩٤٧) في المعرض الأول للفنانين التشكيليين السوريين في مدرسة التجهيز بدمشق، وفي معرض الفنانين العرب في بيت مري بلبنان، ونظّم له أول معرض فردي سنة (١٩٥٠)، وفي نادي اللواء بحلب، وفي عام (١٩٥٢) أخذت تجربته أهمية كبيرة حينما رسم لوحتي (راقصة العصر، وكفر جنة)، ونال جائزة على هاتين اللوحتين، وكانت الأهم هي اللوحة الثانية، إذ حصل على جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق، والتي اعتبرت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري.
وفي عام (١٩٥٤) سافر إلى روما حيث درس في أكاديمية الفنون الجميلة، وكان معلمه (فرانكو جنتليني)، الذي يُعتبر أعظم فناني بلاده في زمانه؛ وهناك طلب من فاتح ألا ينساق باتجاه الغرب، وأن يبقى في حلمه الشرقي ليُكوِّن شخصية خاصة به. وبعد رجوعه إلى سورية عام (١٩٦٠) كان من أوائل المدرسين في كلية الفنون الجميلة المكوَّنة حديثاً؛ ولكنه بعد تسعة أعوام سافر إلى باريس ليكمل دراسته ثم حصل على شهادة الدكتوراه في أكاديمية الفنون الجميلة.
وبما أن صداقته متينة وعميقة مع المفكِّر الفرنسي «جان بول سارتر» فقد أعجب بإبداعه واقتنى منه أربع لوحات، كما ترجم له مقطوعات شعرية من الإيطالية إلى الفرنسية؛ ولكن الصداقة توقَّفت بعد أن أبدى «جان بول سارتر» استعداده لدعم «إسرائيل» في سنواته الأخيرة.
ومن المعروف أنَّ المدرِّس أحد الفنانين العرب القلائل الذين تُباع لهم أعمالهم في مزادات الفن العالمية بأسعار عالية.
أما على صعيد التدريس في كلية الفنون الجميلة فقد تأثَّر به الطلاب كونه كان يدفعهم نحو إطلاق حريتهم الإبداعية، والبحث في التراث المحلي والموروث الإبداعي، وكثيراً ما كان يساهم في الحديث عن تجاربهم في الندوات المنظَّمة بمناسبة معارضهم، وفي ذات الوقت بنى فاتح المدرس علاقات قوية مع المثقفين والأدباء السوريين والعرب أمثال: «عبد الرحمن منيف، أدونيس، محمد ملص»، ونرى في أعماله طفليه المتوفيين اللذين أنجبهما من زوجته الإيطالية يترددان في رمزية مليئة بالحزن والأسى.
وفي عام ١٩٦٧ أسهم في تأسيس نقابة الفنون الجميلة، وتولَّى رئاستها لمدة اِحدى عشرة سنة، كما كان أحد الأعضاء المؤسسين لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وعضو في اتحاد الكتاب العرب، واُنتُخب عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية.
امتلك فاتح المدرس حسَّاً فنِّيَّاً عالياً في الرسم، وبرزت من بين أعماله لوحة «كفر جنة»، وهي من القرى المجاورة لحريتان.. قريته ومرتع طفولته، حيث الناس متماهين بأرضهم الأم التي تحنو وتُطعم وتمنح المحبة والحنان.. إنها فلاحة بسيطة تحمل في كلتا يديها محصول الأرض على رأسها.. نراها موجودة في الفراغ، متعامدة مع شجرة مهيمنة على المشهد، تؤلف والشجرة وحدة ملتصقة بالأرض تماماً.
قال المدرس: (هناك مشاركة شعورية إنسانية بين ما أرسمه في الوجوه.. إنني أرسم الأطهار، أي الفلاحات.. وأرى أن الفلاحات هنَّ أطهر أنواع البشر في سورية.. إن كان في الشمال أم في الجنوب أم في الشرق، وأرى وجه المرأة من الوجوه الوحيدة التي لا تعرف استعمال أي قناع).
فقد فاتح المدرس والده في عمر مبكر، ولأنه لم يتعرَّف على سطوة الأب لذلك كانت والدته تمثِّل كلَّ شئ في حياته: (الأمومة، والمطر، والثلج، والحب العميق) عاشت حياتها بصلابة أمام أهل زوجها الإقطاعيين الرافضين لوجودها في مجتمعهم فرآها كمقاتلة حمت أطفالها ورعتهم وأفنت حياتها لأجلهم، لذلك جسَّدها في عدة أعمال واقعية في بادئ الأمر، ثم دخلت إلى تربيعاته المبهمة هي وأهلها في السهول الحزينة مع الأشجار والجبال في خلفيات لوحاته التي نشتمُّ منها رائحة التراب الندي، وظل يُعبِّر عنها في كل فعالية كان يقوم بها على مدى عمره، ومن أعماله (أهل أمي في الشمال السوري، قصص الجبال الشمالية، بنات كفر جنة، سيدة جبل الحص).
قال فاتح: (أنا عربي سوري أعيش على جانب من أرض هذا الكوكب.. لي تاريخي وحسي الجمالي بهذا التاريخ، كما أنني من أعماق شعوري أدرك واجب احترام هذا التسلسل الجمالي ونموه… إن واجبي أصعب من واجب الإنسان الأوروبي، فهو لم ينقطع عن التسلسل التاريخي في بنائه المعاصر، بينما التفت أنا إلى الوراء لأرى حلقاته مفقودة من النشاط الفني في تاريخ بلادي).
انعكس تعلقه بوالدته على نظرته الإيجابية للمرأة عموماً، وقد كانت البيئة الريفية التي عاشها في طفولته مع أمه وعماته رافداً مهماً في مسيرته الإبداعية بما في ذلك من مفاهيم شرقية وعقائد وأساطير محلية ومفاهيم اجتماعية.
                           

العدد 1196 –9 -7-2024        

آخر الأخبار
بيان خاص لحفظ الأمن في بصرى الشام سفير فلسطين لدى سوريا: عباس يزور دمشق غدا ويلتقي الشرع تأهيل المستشفى الجامعي في حماة درعا.. مكافحة حشرة "السونة" حمص.. تعزيز دور لجان الأحياء في خدمة أحيائهم "فني صيانة" يوفر 10 ملايين ليرة على مستشفى جاسم الوطني جاهزية صحة القنيطرة لحملة تعزيز اللقاح الروتيني للأطفال فيدان: الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تزعزع الاستقرار الإقليمي الجنائية الدولية" تطالب المجر بتقديم توضيح حول فشلها باعتقال نتنياهو قبول طلبات التقدم إلى مفاضلة خريجي الكليات الطبية مؤشر الدولار يتذبذب.. وأسعار الذهب تحلق فوق المليون ليرة الكويت: سوريا تشهد تطورات إيجابية.. و"التعاون الخليجي" إلى جانبها مع انتصار سوريا معاني الجلاء تتجد الإمارات تستأنف رحلاتها الجوية إلى سوريا بعد زيارة الشرع لأبو ظبي الاحتلال يواصل مجازره في غزة.. ويصعد عدوانه على الضفة مصر والكويت تدينان الاعتداءات الإسرائيلية وتؤكدان أهمية الحفاظ على وحدة سوريا بعد أنباء عن تقليص القوات الأميركية في سوريا..البنتاغون ينفي إصلاح محطة ضخ الصرف الصحي بمدينة الحارة صحة اللّاذقية تتفقد مخبر الصحة العامة ترامب يحذر إيران من تبعات امتلاك سلاح نووي ويطالبها بعدم المماطلة لكسب الوقت