في عصر الشاشة الزرقاء يمكن للحياة في لحظة ما أن تتحول إلى موت بطيء.. فغزو الرقمنة المتسارعة دخل إلى كل المجالات بدءاً من العمل، والتعليم، وصولاً إلى الرعاية الصحية، والترفيه، مما جعل من الشاشات جزءاً لا يتجزأ من كل مفاصل حياتنا، وزواياها، وها قد بدأت بوادر كارثة الموت الزرقاء تلقي بظلالها الثقيلة على واقع الإنسان المعاصر كداءٍ خفي لا نعلم متى يعلن عن نفسه.
عندما اهتز كيان العالم الرقمي، وظهرت ما يسمونها (شاشة الموت الزرقاء) انتهى العالم الذي نعرفه في لحظة واحدة لدى كل المؤسسات المهمة في العالم، من دوائر الحكومات، إلى المصارف، إلى شركات التكنولوجيا العملاقة، كان الأمر مذهلاً، وشديد الغموض، ويجسد سقوط كل ما اعتقدنا أنه ثابت، وآمن في هذا العالم.
ففي غضون ثوانٍ انهارت كل البنى التحتية الرقمية التي يُعتمد عليها في الحياة اليومية. توقفت المعاملات المالية، وتعطلت أنظمة الطاقة، والاتصالات، وأصبحت المستشفيات عاجزة عن توفير الرعاية الطبية، ودخل العالم في حالة من الفوضى، والرعب.
وفي ظل هذا الواقع يبدو أن الإنسان المعاصر بات كمن يسير على حبل مشدود يصل بين الحياة والموت.. فهو من ناحية يعتمد على التقنيات الرقمية في كل أوجه حياته، ومن ناحية أخرى يرزح تحت وطأة آثارها الكارثية التي يمكن لها تهديده في أي لحظة.
فجأة تحوّلت أجهزة (الكمبيوتر)، تلك الأدوات التي اعتمدنا عليها في كل مناحي حياتنا، إلى وحوش تهدد وجودنا عندما توقفت المصارف عن العمل، وتعطّلت أنظمة الاتصالات، وتجمّدت حركة النقل، وباتت المستشفيات عاجزة عن تقديم الخدمات الطبية.. وفي غضون ساعات انهار النظام العالمي الذي تم بناؤه بعناية على مدار عقود، تاركاً إيانا في حالة من الارتباك الشديد. لم نكن نعلم ماذا نفعل، أو إلى أين نلجأ، فقد اعتمدنا كلياً على التكنولوجيا لدرجة أننا أصبحنا عاجزين من دونها.
رعب رقمي برز كوحش مفترس يهدد ركائز أساسية للحياة من وراء شاشة زرقاء هي في حقيقة أمرها أكثر من مجرد عطل فني، أو تقني، وإنما رمز لما آل إليه عالمنا الذي أفرط في اعتماده على التكنولوجيا حتى التهمته، فبمجرد أن حصل خلل برمجي بسيط توقفت الحياة في أجزاء واسعة من الكرة الأرضية، وكأنه الزلزال الذي تهاوت على إثره منظومات المطارات، ووسائل الإعلام، والمشافي، والبورصات، ولو لفترة زمنية حُسبت بالساعات إلا أن الصورة التي تشكلت على إثر ذلك باتت واضحة للعيان بأن العالم حقاً قد أصبح هشاً.
وها قد غدونا ليس على مستوى الأمن العالمي فقط بل حتى على مستوى الأفراد العاديين مع كل لمسة على لوحة المفاتيح، و مع كل ضغطة على شاشة الهاتف، نضع جزءاً من حياتنا بين يدي آلة قد تخذلنا في أي لحظة متسببة بشعور الغضب تجاه التقنية الحديثة عموماً، والشركات التي تصنعها، كما العجز، والإحباط من عدم القدرة على التحكم في حياتنا الرقمية بما يضمن عدم حدوث خلل، وإخفاقات.
إن (شاشة الموت الزرقاء) التي تعرفنا إليها لأول مرة على نطاق عالمي هي مجرد جرس إنذار يدعونا إلى إعادة تقييم علاقتنا مع التكنولوجيا، وإلى بناء عالمٍ رقمي أكثر أماناً، واستدامة.. وتذكير لنا بأن التكنولوجيا ليست مثالية، وأن الاعتماد عليها بشكل كلي يضعنا في مأزق مستقبلي قد يأتي في يوم لا نعرف فيه كيف نخرج منه بسهولة بينما نحن نريد عالماً رقمياً يساهم في تقدمنا دون أن يهدد وجودنا عند أول عطل تقني له.
* * *