الثورةـ علا محمد:
لسنواتٍ طويلة، ظلت المدينة الجامعية في دمشق عالماً خفيّاً خلف الأسوار، أبنيتها الرمادية تصطفّ بصمت، ونوافذها تلوّح بثياب معلّقة، لتخفي وراءها كفاح الطلاب، أحلامهم المؤجلة، وحياة تُعاش بصمت.

لكن مضى ذاك الزمن، تحررت المدينة من صمتها، ولأول مرة، دخلت صحيفة “الثورة” قلب الوحدات السكنية، لا لتروي ما يُقال فقط، بل لتشهد ما هو كائن.

في الصباح الباكر، وبعد سير طويل بسبب تعطل سيارة المدينة، كانت بدايتنا في الوحدة الرابعة، حيث استقبلتنا مشرفة الوحدة مها العلي، التي تحدثت عن التغييرات الكبيرة التي شهدتها الوحدة بعد التحرير، بفضل مدير عام جديد يعمل بأسلوب مختلف.
وأشارت إلى أهم تغيير طرأ على الوحدات، وهو تخفيض عدد الطالبات في الغرفة الواحدة من 7 أو 8 سابقاً إلى 4 فقط، ليصبح عدد الطالبات في الوحدة الرابعة لا يزيد على 60 طالبة، وأضافت أن الوحدة تضم خمسة طوابق، وكل طابق أربعة حمامات، وتتم أعمال الترميم تدريجياً “كتلة كتلة”.
كما كشفت عن تمديد كابلات الإنترنت داخل الوحدة، معتبرة أن ما تحقق حتى الآن خلال شهر واحد فقط، إنجاز كبير.

شهادات من قلب الغرف
وخلال جولتنا في الممرات، طرقنا باب إحدى الغرف فاستقبلتنا الطالبة سيدرا محمد، من كلية الإعلام، وقالت: “قبل هذا العام، كانت الخدمات سيئة، الكهرباء والماء في انقطاع دائم، الآن تغيّر كل شيء، الكهرباء 24 ساعة والمياه الساخنة متوافرة، المزعج فقط أننا نضطر للتنقل من كتلة لأخرى للاستحمام حتى ينتهي الترميم”.
وفي الكتلة الثانية، تحدثت الطالبة حلا عثمان : “الحمامات تم ترميمها بالكامل في كتلتنا، والحال أفضل بكثير فقد انخفض عددنا بالغرفة، لكن ما زالت مشكلة التدفئة قائمة بسبب منع استخدام السخانات بعد مشكلة الحرائق والضغط على القاطع الكهربائي”، بعد ذلك توجهنا إلى الوحدة السابعة، حيث أكد المشرف فراس صبح أن الوضع جيد ولا تحتاج الوحدة إلا لإصلاحات عامة، وهذا ما تأكدنا منه خلال جولتنا.
أما الوحدة الرابعة عشرة، التي تضم نحو 500 طالبة، فقد كانت سيئة جداً سابقاً في الحمامات والمطابخ، ويتم ترميمها بالكامل حالياً، بحسب مشرفة الوحدة ناريمان الفروة التي نوهت إلى نية الإدارة بنقل الطالبات إلى الكتلة المجاورة لحين انتهاء أعمال الترميم، وفي ممر الوحدة ذاتها، التقينا الطالبتين بشرى السموري وهبة عزيز حسون وأكدتا تحسن الخدمات وانتظارهما انتهاء الترميم بفارغ الصبر.

للذكور نصيب من التغيير
وفي الوحدة الأولى للذكور، التي تضم 410 غرف ، أكد المشرف أحمد العسكر أن أعمال الترميم في المرافق الصحية أوشكت على الانتهاء، وتم تركيب أنظمة طاقة شمسية لتوفير المياه الساخنة، كما أوضح الطالب ليث أبو شقير أن الخدمات جيدة، رغم بقاء بعض المشكلات في الحمامات.
ما رواه الطلاب والمشرفون لم يكن مجرد كلام، فعدسة “الثورة” جالت بين الممرات، التقطت صور الترميمات وبسمات الطالبات والطلاب في الساحات الصغيرة التي بدت كأنها تنبض بالحياة.

رؤية جديدة ومرحلة مختلفة
وفي مبنى الإدارة، أكد الدكتور عماد الدين الأيوبي، مدير المدينة الجامعية في دمشق، في تصريح خاص لـ”الثورة”، أن المدينة الجامعية ما زالت تعمل كهيئة مستقلة وفق القانون /29/ لعام 2022، موضحاً أن المرحلة الجديدة شهدت تعديلات إدارية وهيكلية شاملة، إذ تم إجراء تقييم ميداني لعمل الموظفين واختيار الأكفأ وذي السمعة الحسنة منهم، بهدف تكوين نواة لتأسيس فريق عمل متكامل يعمل بروح الفريق الواحد، لإدارة المدينة الجامعية بالشكل الأمثل، كما تم إحداث مكتب للعلاقات العامة يهتم بمتابعة الأمور الخدمية، وأوضح الدكتور الأيوبي أن إعادة هيكلة الوحدات العامة والخدمية تهدف إلى ضمان متابعة شاملة لكل الأمور الخدمية في المدينة، مضيفاً، أنه تم إحداث عيادة نفسية وخدمة اجتماعية لخدمة الطلاب والإشراف عليهم، بما يسهم في تطوير سلوكهم، وفريق تطوعي من الطلاب للمشاركة في إنجاح الفعاليات والملتقيات الطلابية، وهو ما يعكس اهتمام الإدارة بالجانب الإنساني والاجتماعي للطلبة.
وأشار إلى أن المدينة الجامعية، لم تشهد ترميمات منذ سنوات طويلة، لذا كان ترميم الوحدات السكنية أحد أولويات الإدارة، ويتم ذلك وفق الإمكانات المتاحة، لحين إقرار الموازنة العامة لعام 2026 ورصد موازنة خاصة للمدينة الجامعية، حتى تتم متابعة أعمال تأهيل وترميم الوحدات السكنية، كهدف أساسي في المرحلة المقبلة.

إلغاء الـ vip ونظام للمراقبة
كما صرح أن تخفيف عدد الطلاب في الغرفة الواحدة تم بهدف توفير جو مناسب، ويختلف هذا التوزيع حسب تصميم الوحدات السكنية واستيعاب كل غرفة حسب التصميم،
أما عن آلية القبول، فيتم عن طريق التسجيل عبر تطبيق خاص بالمدينة الجامعية يسمى “مدينتي”، ثم تُرفع الأوراق الثبوتية، وتتم دراسة الطلب وترسل الموافقة عبر رسالة نصية على رقم الطالب، بعدها يستكمل الطالب إجراءات التثبيت في الوحدة السكنية المحددة.
وفيما يخص غرف الـVIP السابقة، أكد مدير المدينة الجامعية على أن جميع هذه الغرف أُلغيَت وأصبحت متاحة لجميع الطلاب لضمان العدالة، موضحاً أن الإدارة اتخذت خطوات واضحة لضمان التوزيع العادل للطلاب بين الغرف والخدمات، من خلال تشكيل لجنة لمعاينة الغرف بشكل دوري وتحديد النواقص لضمان عدم وجود أي تمييز بين الطلاب، وبحسب قوله، فإن الخدمات الأساسية تعتبر حقاً لكل ساكن، ولا يوجد أي تفضيل لطالب على آخر.
وحول متابعة الشكاوى الطلابية، أكد وجود مديرية خاصة تهتم بهذا الأمر، حيث يتم تقديم الشكاوى وتدقيقها، ومن ثم اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق المخالفين وفق التعليمات النافذة، لافتاً إلى أن تنظيم الدخول والخروج للطلاب صار منظماً، بحيث تدخل الطالبات إلى حرَم المدينة الجامعية عند الساعة العاشرة مساءً، بينما يقتصر دخول الطلاب الذكور على الساعة الثانية عشرة، مع جولات إشرافية مساءً لضمان السلامة ومعالجة أي مشاكل فور وقوعها.

مجمع متكامل
وبيّن الأيوبي أن الإدارة تسعى إلى تحويل المدينة الجامعية إلى مجمع طلابي متكامل، يشمل مرافق تعليمية وخدمية، وأنه تم إحداث دورات تدريبية متخصصة للطلاب، إلى جانب برامج مجانية لتطوير اللغة، معتبراً أن هذا النهج يعكس حرص الإدارة على توفير بيئة متكاملة للدراسة والحياة الطلابية.
وعن الصعوبات، أوضح أن التحدي الأكبر يكمن في ضعف الموازنة، وأن المدينة الجامعية تعتمد حالياً على الموارد الذاتية والمخصصات وفق الموازنة الاثني عشرية لضمان استمرار الخدمات الأساسية وتحسينها تدريجياً.
وختم الدكتور الأيوبي تصريحه، بالتأكيد على أن إدارة المدينة الجامعية تعمل بكل طاقتها لتحسين الصورة العامة للمدينة، ووجه كلامه للطلاب قائلاً: “لن يتحقق هذا إلا بتضافر الجهود معاً للوصول إلى واقع أفضل وأكثر تميزاً من الناحية الخدمية والاجتماعية”، مشيراً إلى الانخراط في المجتمع من خلال الفعاليات والبطولات الرياضية، وأبرز مثال لذلك مشاركة المدينة الجامعية بدمشق وللمرة الأولى في تاريخها في معرض دمشق الدولي، وكانت الأصداء إيجابية.

مشاريع تطويرية بعد التحرير
بدوره، أوضح مدير التطوير والتحديث أمين الزهراني أن المدينة شهدت مشاريع نوعية بعد التحرير شملت الكهرباء والمياه، وإعفاء خط المدينة من التقنين، وتحسين الإنترنت في المقاصف والمقاهي، وتركيب الإنترنت داخل الوحدات السكنية.
وأضاف أن المكتبة الصيفية المركزية تم ترميمها بالكامل لتكون متنفساً للطلاب، مع ترميم الملاعب الثلاثة وإنشاء حدائق جديدة مجهزة بالبنى التحتية والمقاعد، موضحاً أن الملاعب مصنوعة من العشب التارتان المستورد، بمساحات واسعة، وتعمل حالياً بأسعار رمزية للطلاب بساعة ونصف لكل استخدام، مع متابعة مستمرة لصيانة النوازل، حيث تم ترميم حوالي 90٪ من وحدات النوازل لتصبح جاهزة للخدمة.
وأشار إلى وحدة إنتاج منظفات داخلية لتوفير الاكتفاء الذاتي، وضمان الرقابة على الأسعار، مع استمرار الاستثمارات وفق لجنة مناقصات وتنظيم دورات للطلاب.
وأكد أن المشروع الأبرز بعد التحرير كان البدء في إنشاء جامع كامل ومجمع طبي لتقديم الخدمات الطبية للطلاب بالتنسيق مع المشافي والمؤسسات، ما يعكس حرص الإدارة على بيئة متكاملة للدراسة والحياة الجامعية.

البيئة تصنع الوعي
وفي اتصال هاتفي أجرته “الثورة” مع الدكتور جهاد الناقولا، اختصاصي علم الاجتماع، أوضح أهمية تحسين بيئة السكن الجامعي وتأثيره المباشر على حياة الطلاب والتحصيل الأكاديمي، مبيناً أن أي بيئة، مهما كان نوعها، تتطلب الاهتمام والعمل الكافي لتحقيق نتائج إيجابية، سواء تعلق الأمر ببنية المدينة الجامعية أو السكن أو أي بيئة إنتاجية أخرى، مشيراً إلى أن هذا المبدأ ينطبق على جميع البيئات الطلابية أو العمالية أو الاقتصادية.
وبحسب قوله، فإن تحسين السكن الجامعي ينعكس أيضاً على سلوك الطلاب، فعندما تتوفر كل الاحتياجات الفكرية والمادية والتقنية والخدمية، لا يكون هناك حاجة للانشغال بالتفكير في مغادرة السكن، سواء ذكوراً أو إناثاً، لأن غالبية حالات المغادرة كانت تهدف إلى تأمين احتياجات وخدمات غير متوفرة داخل الحرم الجامعي، وفيما يتعلق بدور المدينة الجامعية في بناء الوعي الاجتماعي، أكد أن لها مساهمة كبيرة في إعادة تشكيل الوعي الجامعي بعد سنوات الحرب، مشيراً إلى أن هذا يتطلب تفعيل الأنشطة الثقافية والندوات العلمية، بما يعيد بناء الوعي الجامعي بصورة حقيقية وفاعلة، ويسهم في تعزيز تقبل الآخر واحترام رأيه، بعيداً عن سياسات الانقسام، والعمل على بناء الثقة والعلاقات الصحيحة داخل السكن.

من “الفضفضة” إلى مدونات السلوك
واقترح الاختصاصي تفعيل خط ساخن عبر المكتب الإرشادي، يسمى “الفضفضة”، لإدارة الحالات القانونية والنفسية، يدار بواسطة اختصاصيين ويعمل على مدار 24 ساعة، مشيراً إلى أن هذا سيحل الكثير من المشكلات الطلابية، مبيناً أهمية إيجاد مدونات سلوك عبر شاشات مرئية عند مدخل الوحدات السكنية، لتعريف الطلاب بحقوقهم وواجباتهم، بما يعزز الانضباط والنظام داخل المدينة الجامعية.
ختاماً، إن كانت هذه الجولة الأولى لـ”الثورة” في رحاب المدينة الجامعية، فلن تكون الأخيرة، فثمّة مدينة جديدة تولد بهدوء بين الأبنية، مدينة تُبنى بالحلم والعمل لطلاب يستحقون الأفضل.