الثورة – لينا شلهوب:
يقال :إن “الجوع لا يبقي للضمير مكاناً”، وهذه المقولة تختصر جانباً كبيراً من العلاقة بين الدخل والفساد، ففي الوقت الذي تسعى فيه المؤسسات إلى تحقيق النزاهة والشفافية، يبقى تحسين الأجور والمكافآت أحد أهم الأسلحة في مواجهة الرشوة والانحرافات الإدارية.
فالموظف الذي يشعر بالأمان المالي، ويجد تقديراً لجهده، لا يحتاج إلى البحث عن مكاسب غير مشروعة، بينما ضعف الأجور قد يدفع البعض إلى استغلال مناصبهم لتعويض هذا النقص بطرق غير قانونية.
أكثر من مجرد رقم
للحديث حول هذا الموضوع، التقت “الثورة” الخبير في الشؤون التنموية وصفي أبو فخر، حيث أشار أنه في مجتمع يعاني من ضغوط معيشية متزايدة وارتفاع مستمر في الأسعار، يصبح الأجر العادل أكثر من مجرد رقم في كشف الراتب، إنه صمام أمان يحمي الموظف من الانزلاق نحو الفساد، فحين لا تكفي الأجور لتلبية الاحتياجات الأساسية، قد يجد البعض أنفسهم أمام إغراءات الرشوة أو استغلال المنصب لتحقيق دخل إضافي، ومن هنا يبرز سؤال مهم: إلى أي مدى يسهم تحسين الأجور والمكافآت للموظفين في تقليص الدوافع نحو الفساد، مضيفاً أنه من الطبيعي أن يرتبط الفساد ارتباطاً وثيقاً بضعف الدخل، فالموظف الذي يتقاضى راتباً لا يكفي لأسبوع من احتياجات أسرته، سيشعر بالظلم، وربما يبحث عن التعويض بطرق غير قانونية، فتحسين الأجور والمكافآت ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية لحماية المال العام، وتعزيز كفاءة الجهاز الإداري.
و يبين أبو فخر أن تحسين الأجور لو تمّ بشكل مدروس ومتدرج، مع ربطه بالأداء والمساءلة، سيؤدي إلى تحسين جودة الخدمات العامة وتقليل الهدر الإداري، كون بيئة العمل العادلة تحفزالانتماء وتمنح الموظف شعوراً بالقيمة والاحترام، ما ينعكس إيجاباً على سلوكه المهني.

انعكاس الأجور على السلوك الوظيفي
في السنوات الأخيرة، ومع الارتفاع الكبير في الأسعار وتراجع القوة الشرائية، حسب أبو فخر، أصبح الراتب الشهري في كثير من المؤسسات عاجزاً عن تلبية الاحتياجات الأساسية، وقد أدى ذلك إلى ظهور مظاهر سلوكية سلبية مثل البطء في إنجاز المعاملات، أو قبول “الإكراميات” مقابل تسريعها، وهي ممارسات تعدّ في جوهرها أشكالاً من الفساد الصغير، لكن في بعض الجهات التي بادرت إلى تحسين الحوافز والمكافآت الداخلية، لوحظ انخفاض واضح في الشكاوى المتعلقة بسوء السلوك الإداري، فعلى سبيل المثال، قامت وزارة الاتصالات والتقانة في السنوات الأخيرة بإدخال نظام حوافز إضافية للعاملين في مراكز الخدمة الإلكترونية، ما ساعد على رفع مستوى الالتزام وتحسين رضا المواطنين عن الخدمات المقدّمة.
من الأمثلة اللافتة أيضاً، تجربة بعض البلديات الكبرى التي ربطت المكافآت الشهرية بمدى رضا المواطنين وعدد المعاملات المنجزة دون تأخير، وقد أدى هذا الإجراء إلى تحفيز الموظفين على العمل الجاد، وخفّض من حالات المماطلة التي كانت تستغل سابقاً كمبرر لقبول الرشاوى، وفي المقابل، في قطاعات مثل الدوائر العقارية والجمارك، لا يزال ضعف الأجور يشكّل بيئة خصبة للفساد الإداري الصغير، إذ تعتمد بعض المعاملات على “تسهيلات شخصية” مقابل مبالغ رمزية، هذه الممارسات، كما يوضح أبوفخر، ليست نابعة من سوء نيّة دائماً، بل من واقع اقتصادي قاس يشعر فيه الموظف بأن دخله لا يعادل جهده أو حاجاته المعيشية.
ويتابع : أن تحسين الأجور له أثر مزدوج: فهو يرفع الإنتاجية من جهة، ويعيد الثقة بين المواطن والدولة من جهة أخرى، فحين تقدّم الخدمات بشفافية وسرعة، من دون مقابل غير مشروع، يشعر المواطن أن العدالة متحققة وأن مؤسسات الدولة تعمل لخدمته لا لاستغلاله.
و بيّنت دراسة صادرة عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش عام 2022 أن أكثر من 40 بالمئة من المخالفات الإدارية المسجلة، كانت مرتبطة بدوافع مالية مباشرة، ما يعزز فكرة أن تحسين الأجور يمكن أن يسهم فعلياً في تقليص هذه النسبة.
الرقابة والقوانين الرادعة
من جهتها، لفتت مختصة في شؤون المحاسبة منى العسافين إلى أنه لا شكّ أن مكافحة الفساد، تتطلب منظومة متكاملة تشمل الرقابة والشفافية والقوانين الرادعة، إلا أن تحسين الأجور والمكافآت يبقى الخطوة الأولى لبناء جهاز إداري نزيه، مؤكدة أنه حين يشعر الموظف أن الدولة تقدّر جهده، وتؤمن له حياة كريمة، فلن يحتاج إلى طرق ملتوية لزيادة دخله، إذ إن الأجر العادل هو أفضل وسيلة للوقاية من الفساد قبل معالجته.
واختتمت حديثها بالقول: إن تحسين الأجور ليس مجرد قرار اقتصادي، بل موقف أخلاقي واجتماعي يعيد الثقة بين الفرد ومؤسسته، فالنزاهة لا تفرض بالقوانين وحدها، بل تبنى بالعدالة والكرامة، وعندما تتبنى المؤسسات هذا النهج، يمكن القول: إننا بدأنا بالفعل في تجفيف منابع الفساد لا في ملاحقة نتائجه.