الثورة- مريم إبراهيم:
بين الأنقاض الإدارية التي خلّفتها الحرب والفساد وتآكل الثقة العامة، يبرز سؤال يلاحق السوريين بجدية أكبر من أي وقت مضى: كيف يمكن لمؤسسات الدولة أن تصبح أكثر نزاهة وفعّالية، لا عبر شعارات سياسية ولا تبريرات حكومية، بل وفق قواعد حوكمة حقيقية وتجارب دول خرجت من صراع على السلطة؟
وفي وقت بات الحديث فيه عن النزاهة والشفافية في المؤسسات الحكومية يأخذ الكثير من النقاش والتحليل للوصول لواقع أكثر نزاهة وفعّالية ، تؤكد الآراء على أهمية ذلك حيث العمل ضمن هذا الإطار يعني تطبيق مبادئ الصدق والأمانة والوضوح في كافة المعاملات والقرارات الإدارية، وهي أركان أساسية لمكافحة الفساد الإداري وتعزيزالأداء العام ، مع لحظ خدمة المواطن كأساس وليس مجرد أقوال.

مشروع شاق
الخبير الإداري والحقوقي علي اسماعيل بيّن في حديثه لصحيفة الثورة أن المشهد معقّد ، فبناء مؤسسات نزيهة ليس عملاً تجميلياً ولا بياناً فوقياً ، إنه مشروع شاق أقرب إلى جراحة سياسية وإدارية دقيقة يحتاج أدوات واضحة، وإرادة صادقة، وكوادر تعرف أن خدمة الناس ليست امتيازاً بل مسؤولية ، والنزاهة ليست خطبة ، بل نظام ، و في التجارب الدولية التي نجحت بعد الحروب، مثل رواندا وسيراليون وتيمور الشرقية، لم تُعالج الفوضى بإعلان «مكافحة الفساد» فقط.
بل جرى تفكيك جذور الخلل ، مثل نشر بيانات مالية، رقابة مستقلة، قوانين تضارب مصالح، وإدارة مبنية على الكفاءة لا شبكة الولاءات ، ورواندا مثال صارخ ، فمن بلد غارق في الدم إلى إدارة عامة صارمة وشفافية مالية ، لكنّها أيضاً نموذج لمعادلة حساسة ، مضيفا : المركزية السياسية بقيت حاضرة، والحقوق لم تنجُ دائماً من القبضة الصلبة ، بل تجربة تقول : إن مكافحة الفساد تحتاج قوة تنفيذ، لكنّها تحتاج أيضاً ضمانات الحرية حتى لا يتحول الانضباط إلى طاعة عمياء ، و سيراليون اختارت نهجاً تدريجياً ، “هيئة مكافحة فساد بصلاحيات قضائية و تعزيز النزاهة في التعليم والخدمة المدنية، وبناء قدرات الإدارة المالية خطوة بخطوة” ، والبطء كان سمة، لكنّه منح التجربة واقعية واستدامة ، أما تيمور الشرقية، فواجهت تحديات مختلفة كبناء مؤسسات شبه معدومة من الصفر وبمساعدة دولية مكثفة ، والتجربة أثبتت أن الدعم مفيد لكنّه قد يصبح عكازاً دائماً إذا لم تُبَنَ كفاءات محلية حقيقية.
سوريا بين الواقع والطموح
وأوضح الخبير اسماعيل أن الطريق السوري نحو مؤسسات نظيفة لن يُعبَّد بالشعارات ، فهناك تعددية قوى، انهيار اقتصادي، وثقّة منهكة ، لذلك يبدأ الإصلاح هنا بخطوات صغيرة لها أثر، لا بخطط عملاقة تنتهي في الأدراج ، وما يمكن فعله فوراً نشر تقارير مالية دورية مفهومة للمواطن ، وقوانين واضحة لتضارب المصالح تشمل كبار المسؤولين ، وقناة مستقلة لتلقي شكاوى الفساد مع حماية للمبلّغين.
ويؤكد اسماعيل أن هذه ليست معجزات ، بل رسائل بسيطة تقول : إن الدولة بدأت تنظر إلى المواطن لا إلى المرآة ، ما يحتاج وقتاً وإرادة ، ونظام مشتريات حكومي إلكتروني شفاف ، إضافة إلى إصلاح الخدمة المدنية وفق معايير الجدارة ، وإيجاد أجهزة رقابية مستقّلة لا تُبدَّل ولا تُطوَى بتغيّر المزاج السياسي ، وقضاء إداري مستقل قادر على محاسبة السلطة لا تجميل أخطائها ، فالإصلاح هنا أشبه بمسار طويل أكثر منه قفزة سريعة ، والعبرة ليست في عدد الخطب، بل في دوام تطبيق القواعد ، فالحوكمة ليست شعاراً والمساءلة قلبها النابض.
ونوه اسماعيل بأنه إذا كان الإصلاح الإداري بيتاً تُبنى جدرانه اليوم، فإن مبادئ الحوكمة هي أساسه مثل الشفافية، سيادة القانون، المشاركة المجتمعية، العدالة، الكفاءة، والاستجابة لحاجات الناس، وهذه المبادئ ليست زينة لغوية في خطط حكومية ، بل إنها أدوات تُخرج الإدارة من العتمة إلى الضوء، وتجعل القرار قابلاً للفحص، وتجعل الموظف العام خادماً للناس لا وصياً عليهم ،لكن بين كل هذه المبادئ تبرز كلمة ثقيلة على آذان كثير من المسؤولين، وهي المساءلة ، فهي ليست لجنة شكلية ولا مناسبة سنوية بل سؤال يومي لا يستثني أحداً ،من يقرر؟ كيف قرر؟ كم كلف القرار؟ ، ومن المستفيد؟ ، فالحوكمة بلا مساءلة تصبح مجرد ديكور أنيق يخفي العادات القديمة ، والمساءلة لا تعيش بلا إعلام حر، وقضاء مستقل، ومجتمع قادرعلى رؤوس الحكومات قبل موظفي الصف الأول ، كما أن تجارب ما بعد النزاعات تؤكد بوضوح أنه من دون قدرة على محاسبة السلطة، يعود الماضي في ثياب جديدة ويجلس بثقة على كرسي المستقبل.
بين التجربة والأمل
وينوه إسماعيل أنه في سوريا المقبلة، لن تُقاس الدولة بخطب المسؤولين، بل بقدرتها على خدمة المواطن بسرعة وشفافية، ونشر الحقائق قبل تقديم الأعذار، ومعاقبة الفاسد ولو كان صاحب النفوذ، وبناء ثقة قائمة على الوقائع لا الولاءات، فالإصلاح الحقيقي لا يبدأ من قمة الأبراج بل من درج صغير، وخطوة تليها أخرى، وقرار يتلوه تنفيذ لا ضجيج، فمن لا يملك شجاعة البداية، لن يصنع نهاية مختلفة.