الثورة – مها دياب:
في مؤتمر صحفي عقدته وزارة الداخلية السورية، خرجت اللجنة المكلفة بمتابعة حالات الاختطاف في عدد من المحافظات، لتعرض نتائج تحقيقات امتدت لثلاثة أشهر، في ظل تصاعد الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي حول ما وُصف بأنه تصاعد غير مسبوق في حالات الخطف.
المتحدث باسم الوزارة نور الدين البابا، أوضح أن اللجنة عملت بهدوء وبشكل منهجي على دراسة اثنين وأربعين بلاغاً تم تصنيفها على أنها حالات اختطاف، وتبين بعد التحقق الميداني والتواصل مع ذوي المعنيين أن واحدة فقط من هذه الحالات كانت اختطافاً فعلياً، بينما البقية تعود إلى أسباب اجتماعية أو شخصية أو قانونية لا علاقة لها بالخطف الجنائي.
نتائج دقيقة
وقد شملت هذه الحالات هروباً طوعياً من المنزل، أو تغييرات مؤقتة في الإقامة، أو حالات عنف أسري دفعت بعض الفتيات إلى المغادرة، بالإضافة إلى ادعاءات كاذبة وجرائم دعارة وابتزاز.
اللجنة أكدت أن هذه النتائج لا تقلل من أهمية أي بلاغ، لكنها تكشف حجم التضليل الذي تم تداوله على المنصات الرقمية، حيث تم تضخيم الحالات وتقديمها على أنها ظاهرة أمنية منظمة، في حين أن الواقع مختلف تماماً.
تفكيك الشائعات
اللجنة شددت على أن وزارة الداخلية تعاملت مع جميع البلاغات بجدية، وفتحت قنوات تواصل مباشرة مع الأهالي، وحرصت على التحقق من كل حالة قبل إصدار أي تصريح، حفاظاً على الخصوصية ومنعاً لاستغلال الحالات في سياقات غير دقيقة.
كما أشارت إلى أن بعض الصفحات الإلكترونية أسهمت في خلق حالة من الذعر المجتمعي، من خلال نشر مقاطع مفبركة أو صور قديمة، واستخدام عبارات تحريضية مثل “انهيار أمني” و”غياب الدولة”، وهي مصطلحات تهدف إلى ضرب الثقة بالمؤسسات، لا إلى حماية المواطن.
روايات مفبركة
التحقيقات أظهرت أن بعض البلاغات كانت مدفوعة بعوامل عائلية أو عاطفية أو حتى رغبة في التغطية على سلوكيات غير قانونية، وأن عدداً من الحالات تم تضخيمها إعلامياً دون الرجوع إلى الجهات المختصة.
هذا التفكيك المهني للروايات المتداولة جاء في وقت حساس، حيث كانت بعض المنصات الرقمية تروج لانفلات أمني، وتستخدم لغة تتجاوز النقد إلى التحريض، ما يضعف الثقة العامة ويهدد السلم الأهلي.

التحقق قبل النشر
الإعلامي عبسي سميسم، علق على النتائج قائلاً إن ما جرى ليس مجرد تفنيد لشائعات، بل هو اختبار حقيقي لمهنية الإعلام في سوريا.
وأكد أن الصحفيين مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالتحقق قبل النشر، وبالتمييز بين البلاغات الرسمية والروايات العاطفية التي تنتشر على المنصات دون أي تدقيق.
وأضاف سميسم أن بعض الصفحات التي تدعي المهنية أسهمت في تضخيم هذه الحالات، وخلقت حالة من الهلع المجتمعي، دون أن تتحقق من مصادرها أو تتواصل مع الجهات المختصة، معتبراً أن هذا السلوك لا يندرج تحت حرية الإعلام، بل هو فوضى رقمية يجب أن تُضبط بالقانون والمساءلة، وأشار إلى أن الإعلام الوطني يجب أن يكون خط الدفاع الأول، لا شريكاً في تضليل الناس أو تأجيج مشاعرهم.
فوضى رقمية
وزارة الداخلية، من جهتها، أكدت أنها بصدد تنفيذ قانون الجرائم الإلكترونية بعد إقراره من المجلس التشريعي، والذي يتضمن بنوداً واضحة لملاحقة من ينشر معلومات مضللة أو يحرض على الكراهية أو يهدد السلم الأهلي.
كما شددت على أن الجرائم الإلكترونية لا تقل خطورة عن الجرائم التقليدية، خاصة عندما تؤثر على النسيج الاجتماعي أو تثير النعرات الطائفية أو المناطقية، وهو ما تم رصده في بعض المنشورات التي تناولت حالات الاختفاء بطريقة مسيئة ومفبركة.
إلا أن هذا القانون لا يهدف إلى تقييد حرية التعبير، بل إلى تنظيمها وضمان أن تكون في خدمة الحقيقة والمصلحة العامة، لا أداة في يد من يسعون إلى زعزعة الاستقرار أو تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية على حساب أمن المجتمع.
وقد أكدت الوزارة أن تنفيذ القانون سيتم بشفافية، مع احترام الحقوق، وملاحقة من يثبت تورطه في نشر الذعر أو التلاعب بالمعلومات.
ثقة مفقودة
في ظل هذا الواقع، أكد سميسم على أهمية تعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات الرسمية، من خلال الشفافية في عرض المعلومات، والسرعة في الرد على الشائعات، وتوفير رواية رسمية واضحة عبر المنصات الإعلامية الحكومية.
فغياب الرواية الرسمية أو تأخرها يفتح المجال أمام التأويلات، ويمنح الصفحات غير المهنية فرصة لاحتلال المشهد، وهو ما يضعف الثقة ويزيد من حالة القلق العام.
تحولات اجتماعية
ومن بين الحالات التي تم التحقيق فيها، برزت ظواهر اجتماعية تتعلق بالهروب من العنف الأسري، والزواج خارج إطار العائلة، والانفصال العاطفي، وهي بحسب سميسم قضايا لا يمكن تصنيفها كجرائم، بل كمؤشرات على تحولات اجتماعية تحتاج إلى دراسة ومعالجة، لا إلى إدانة أو تشهير.
فمن حق الأفراد أن يبحثوا عن بيئة آمنة، ومن واجب الدولة أن توفر لهم الحماية والدعم، لا أن تترك هذه الحالات لتكون مادة للتنمر أو التحريض أو التشكيك.
وعي مجتمعي
وشدد على أهمية دور المجتمع المدني، والمؤسسات التربوية، والإعلام التوعوي، في تقديم خطاب متوازن، يراعي الواقع، ويعالج الأسباب، ويمنع التوظيف السلبي للحالات الفردية.
ما كشفه المؤتمر لا يجب أن يُقرأ فقط كبيان رسمي، بل كدعوة إلى مراجعة العلاقة بين المواطن والمعلومة، بين الإعلام والمصداقية، وبين المجتمع ومؤسساته.
فالمطلوب اليوم ليس فقط محاسبة من يضلل، بل أيضاً تمكين من يصدق، وتدريب من ينشر، وتثقيف من يستهلك. الوعي المجتمعي هو الحصن الأول، وهو ما يجب أن يُبنى بالتوازي مع القوانين، عبر التعليم، والإعلام، والأسرة، والمجتمع المدني.
حماية من الشائعات
وإذا كانت حالة واحدة فقط من أصل اثنين وأربعين حالة اختطاف حقيقية، فإن الحقيقة الأكبر هي أن المجتمع السوري بحاجة إلى حماية من الشائعات، بقدر حاجته إلى حماية من الجرائم.
وحتى لا تتحول المنصات الرقمية إلى ساحات فوضى، يجب أن نعيد الاعتبار للرواية الرسمية، وأن نطالب بالشفافية، وأن نرفض التهويل، وأن نُحاسب من يضلل الناس عن قصد.
إن بناء الثقة يبدأ من المعلومة الدقيقة، وينمو عبر الحوار، ويترسخ عندما يشعر المواطن أن مؤسساته تحميه وتخاطبه بصدق.