الثورة – كوثر سمعان:
في عالمٍ تتسارع فيه الأخبار كما تتسارع دقات القلب بعد فنجان إسبرسو، كشفت دراسة بريطانية حديثة أن الصحفيين والعاملين في الإعلام يتصدرون قائمة المهن الأكثر استهلاكاً للقهوة في عام 2025، بمتوسط 3.62 كوب يومياً، وجاء في المرتبة الثانية العاملون في قطاع الرعاية الصحية (3.6 كوب)، ثم الشرطة (2.52 كوب)، وفقاً للدراسة السنوية التي أصدرتها منصة “بريسات” (Pressat) لتوزيع البيانات الصحفية.
وشمل الاستطلاع نحو 20 ألف موظف من مختلف المهن بين شهري يناير ومارس 2025، في عينة تعكس طيفاً واسعاً من البيئات المهنية داخل بريطانيا.
في غرف الأخبار التي لا تنام، تتحول القهوة من مجرد مشروب صباحي إلى رفيقة ليلية تساعد الصحفيين على مقاومة التعب وإكمال سباق المواعيد النهائية.
وترى “بريسات” أن هذا الاعتماد اليومي على الكافيين يعكس ثقافة مهنية مترسخة، حيث يُنظر إلى القهوة كرمز للإنتاجية والتركيز، وربما كدرعٍ نفسي في وجه ضغط الوقت.
بينما تتكرر النتيجة للعام الثاني على التوالي، لاحظت الدراسة ارتفاعاً في استهلاك العاملين في الرعاية الصحية أيضاً — ما يشير إلى أن ضغوط المهنة، لا نوعها، هي ما يحدد كمية الكافيين في اليوم.
لا تقتصر الظاهرة على العادات اليومية، بل تمتد إلى الأرقام الاقتصادية.
فبحسب الدراسة، ينفق العاملون في الإعلام نحو 12.66 يورو أسبوعياً على القهوة، ما يجعلهم من أكثر الفئات إنفاقاً على المشروبات المنبهة في بريطانيا.
وتشير التقديرات إلى أن سوق القهوة العالمي ينمو بنسبة تتراوح بين 4 و5% سنوياً مدفوعاً بازدياد الطلب بين المهن الإبداعية والخدمية التي تتطلب تركيزاً مستمراً.
أما من الناحية الثقافية، فالعلاقة بين الصحفيين والقهوة ليست جديدة؛ إذ تصدّروا أيضاً قائمة المستهلكين في دراسة أُجريت عام 2014 بمتوسط أكثر من أربعة أكواب يومياً، ما يرسّخ فكرة أن “الفنجان” جزء من هوية هذه المهنة منذ عقود.
قد يتحوّل إلى فخّ الإرهاق
يقول الدكتور نضال نقّول، اختصاصي الأمراض النفسية والعصبية، إن العلاقة بين العمل الصحفي واستهلاك القهوة ليست مجرد عادة اجتماعية، بل استجابة فيزيولوجية لضغط المهنة وحاجتها المستمرة إلى اليقظة.
– “من الطبيعي أن يستهلك الصحفيون والعاملون في المجالات الذهنية المكثّفة، مثل الإعلام أو الأعمال أو المهن التي تتطلب مناوبات ليلية، منبّهات أكثر من غيرهم. فالكافيين يساعد على زيادة التركيز والانتباه لفترات طويلة، وهو ما يحتاجه الصحفي عندما يعمل تحت ضغط المواعيد أو تغطية الأحداث المتسارعة.
“ويشير الدكتور نقّول إلى أن المشكلة لا تكمن في القهوة ذاتها، بل في الاعتماد النفسي والجسدي المتدرّج عليها، موضحاً أن الإفراط في تناولها قد يؤدي إلى الأرق، والتوتر العصبي، وضعف جودة النوم، ما يخلق دائرة متصلة من التعب والتحفيز المؤقت.
– “عندما يتجاوز الفرد احتياجاته الطبيعية من الراحة، ويعوّضها بالكافيين، يبدأ الجسم بإرسال إشارات اضطراب كارتفاع معدل ضربات القلب أو القلق غير المبرّر.
وهنا يبدأ الخطر الفعلي “ويؤكد الدكتور نضال أن الجرعات المعتدلة بين 300 إلى 400 ملغ يومياً — أي ما يعادل نحو ثلاثة إلى أربعة أكواب من القهوة — لا تشكّل خطراً مباشراً على الصحة لدى الأفراد الأصحاء، لكنه يحذر من تجاوز هذه الحدود، خصوصاً لدى من يعانون من القلق أو اضطرابات النوم أو ارتفاع الضغط، مشدداً على أهمية الموازنة بين التحفيز والراحة، لأن “القهوة لا يمكن أن تحل محل النوم أو الاسترخاء الذهني.”
حبر الفكر ورفيقة الإلهام
قالت الصحفية والكاتبة رنا سلوم إنها تشرب كوبين من القهوة باكراً كل صباح، وتذكّرت موقفاً حين عملت لأول مرة في جريدة الثورة بعمر التاسعة عشرة، حيث ارتبطت في ذاكرتها صورة ذهنية للجريدة الورقية وفنجان القهوة كرمزٍ للكتابة والانطلاق.
تستعيد أيضاً إحدى قصصها المنشورة في الملحق الثقافي عام 2002 بعنوان أحاسيس معتقة، حيث تقول على لسان رجل ريفي زار المدينة واطّلع على الصحيفة:
– “أجدني غريباً هنا.. بين من يحتسون الشاي والقهوة مع كل كلمة يكتبونها، علّها تفعل مادة الكافيين مفعولها فتشعل الثورات!! “هذا المشهد منحها دافعاً كبيراً للكتابة، فكانت أول قصة قصيرة لها نُشرت في الملف الثقافي.
كما أدرجت سلوم في شعرها:
– “الحب انتظار قصير القامة كفنجان قهوة متسارع اللهب، يبوح لبنه بمستقبل مجهول، هو باقٍ إلى حين الرحيل، العشاق فيه يبصمون ويضمرون الحلم. “وتضيف سلوم: “القهوة مكافأة بعد إنجاز ويوم متعب، وربطتها بخلايا الدماغ وضغط العمل والشاشات.
أفضل القهوة التركية مع الهال وأهتم بنوع البن وشكل الفنجان الأنيق
القهوة رفيق دائم في مسيرتنا اليومية مع عناء الصحافة والبحث عن الجديد، تشكل وقود الفكر وتمنح النشاط وتدفق الأفكار وراء الخبر وتحويلها إلى مقالات حية تنبض بالحقيقة والواقع بكل أشكاله وأصنافه وأفراحه وأوجاعه.
“وتتابع: “القهوة هي المؤنس في أوقات الضيق والراحة، وألذها مع زملاء العمل والثرثرة الصباحية، فهي حبر الفكر لأن الفكر لا يهدأ، والقهوة محبرة الأفكار.”
معشوقة لا يُقال لها الوداع
يصف الإعلامي والصحفي منذر عيد القهوة بأنها “إدمان من نوع محبب”، فهو لا يبدأ صباحه دون كوب كبير، وفي العمل كوب آخر، وعدة فناجين هنا وهناك طوال اليوم وحتى في الليل، دون أن تزعجه أو تتعبه.
– “منذ ثلاثين سنة ومع تعدد المناصب التي عملتُ بها في مجال الصحافة والإعلام، عندما أكتب زاوية أو مادة مهمة تتطلب التفكير، فلا أكتبها إلا برفقة القهوة.
“ويضيف: “تروق لي القهوة التركية المغلية على مهل، وكذلك القهوة سريعة التحضير. قبل القهوة يختلف عن منذر عيد بعد القهوة، فهي رفيقة المزاج وجزء من طبيعة عملي وصحبتي مع الزملاء.
“ويختم بابتسامة: “القهوة هي المعشوقة التي لا غنى عن صباح الخير منها.”
الكتابة تفوح برائحة البن والهال
الصحفية ميسون حداد لا تبدأ صباح عملها دون قهوة، وتشرب من ثلاثة إلى خمسة فناجين يومياً لكنها خففت مؤخراً خوفاً على صحتها من القلق والتوتر بسبب الكافيين.
– “كأن الدماغ تبرمج وارتبط الإقلاع في العمل بالقهوة، وصار روتيناً يومياً. فهي تزيد الإنتاجية لديّ وتساعدني على التركيز.
“وترى أن القهوة ترتبط مباشرة بحالة الكتابة: “الكتابة لها أجواء، وهذا الجو المليء برائحة البن والهال من نوع جيد ومغلي بعناية يزيد من إلهامي.
“وعند سؤالها عن سبب استهلاك الصحفيين للقهوة أكثر من غيرهم، قالت: “بحسب طبيعة العمل، كلما تطلب الجهد الفكري والبحث والأدب والثقافة، تكون القهوة دافعاً ومحركاً للفكر.
“وتختم حديثها بالاستعانة بقول الشاعر محمود درويش:- “القهوة لا تُشرب على عجل… القهوة أخت الوقت، تُحتسى على مهل… القهوة صوت المذاق وصوت الرائحة، القهوة تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات.”
الخلاصة
تؤكد الدراسة أن القهوة لم تعد مجرد مشروب في يد الصحفي، بل مرآة لأسلوب حياة تتأرجح بين الشغف بالمعلومة والإجهاد في البحث عنها.
وبينما تبقى القهوة رفيقة الدروب الطويلة نحو العناوين العاجلة، يذكّر الخبراء بأن التركيز الحقيقي لا يُصنع في الفنجان، بل في بيئة عمل إنسانية تسمح بالهدوء وسط صخب الأخبار.