بقلم ضياء القدور- كاتب سوري:
تمهيد: سوريا ما بعد الحرب .. دولة تُبنى على القانون
تدخل سوريا اليوم مرحلةً فارقة عنوانها الأبرز: إعادة بناء الدولة على أسس النزاهة والشفافية والسيادة ورسالة قطيعةٍ واضحة مع إرث الفساد الذي نخر مؤسسات المرحلة السابقة، فالمعركة ضد الفساد ليست تفصيلاً إدارياً ولا حملةً موسمية؛ إنّها الركيزة التي تُبنى عليها الثقة الداخلية والجاذبية الاستثمارية والعلاقات المتوازنة مع الإقليم والعالم.
لذلك، تبدو الخطوات الأخيرة التي باشرها الشرع من تنبيه على مظاهر البذخ، وضبط تضارب المصالح كخارطة طريق لقيام «النهج المؤسّسي» في الحكم.
رسائل إدلب: «أنتم أبناء الثورة.. لا أبناء الامتياز»
الاجتماع الواسع في إدلب كان لحظة سياسية ذات دلالة وطنية.
حين يذكّر الرئيس كبار موظفي الدولة بأنهم «أبناء الثورة»، فهو لا يطلق شعاراً أخلاقياً فحسب، بل يحدّد معياراً عملياً للسلوك العام: لا حصانات تُكتسب بالمنصب، ولا مظاهر ثراءٍ مستفزّة على أبواب إعادة الإعمار، ولا استغلال للنفوذ في مواجهة شعبٍ صابرٍ دفع فاتورة الحرب.
إنّ مطالبة المسؤولين بالإفصاح عن ممتلكاتهم، ومنعهم من الانخراط في مشاريع شخصية جديدة، ثم التلويح بالتحقيق في أيّ شبهة «إثراء غير مشروع»، كلّها إجراءات تُعيد تعريف معنى الخدمة العامة وتختصر الفارق بين «سلطةٍ تمتلك الدولة» و«دولةٍ تمتلك السلطة».
هذه الرسائل، وإن بدت لبعضهم قاسية، تعكس إرادة سياسية لحماية سمعة الإدارة الجديدة وتحصينها من «عدوى الامتياز». فالمظاهر ليست تفصيلاً؛ وهي في عيون الناس معيار صدقية.
ولذلك، فإنّ جمع مفاتيح السيارات الفارهة ليس استعراضاً؛ إنّه إعلان انضباطٍ إداري، ورسالةٌ إلى الرأي العام بأنّ زمن «التغاضي» قد انتهى.
تضارب المصالح: من الدائرة الضيقة إلى عموم مؤسسات الدولة
لا يمكن الحديث عن نزاهةٍ مستدامة بلا معالجةٍ جذرية لتضارب المصالح، وقدّم الرئيس الشرع مقاربةً عملية تبدأ من الأعلى: تحييد الأقارب عن النشاط الاقتصادي، إغلاق أيّ منافذ توظّف القرابة للضغط على الإدارات أو التأثير على الصفقات، والتشديد على أنّ «القرابة لا تمنح تفويضاً بالاستثناء».
هذه السياسة تضرب مثالاً تربوياً، وتؤسّس لثقافةٍ إدارية جديدة تنسجم مع متطلبات رفع العقوبات وجذب الاستثمارات: بيئة أعمال واضحة، ومناقصات شفافة، ومساءلة قابلة للتتبّع.
ولكيلا تبقى الخطوات محصورةً في «الإرادة»، يجري العمل على هندسة أدواتٍ مؤسسية: سجلّات إلزامية لتصريح الذمم المالية لكبار الموظفين، لجان تدقيقٍ مستقلّة تتبع السلطة القضائية، آليات حماية للمبلّغين عن الفساد، وأنظمة مشتريات عامة تُقفل الأبواب الخلفية للصفقات.
بهذا فقط تتحوّل المعركة من حملة إلى نهج، ومن رغبة إلى قانون.
مقارنة لازمة: حين تُبنى الدولة على النزاهة.. وحين يبني الفساد دولةً موازية
يسهل فهم قيمة ما تفعله دمشق اليوم إذا ما قورن بمشهدٍ إقليميٍّ موازٍ يظهر فيه الفساد كشبكة حكمٍ موازية.
النموذج الإيراني مثالٌ جليّ على «تأميم الريع وخصخصة الفوائد»: مؤسسات ظلّية فوق المساءلة، تداخل عضويّ بين الأمن والاقتصاد، و«خصخصات» صُمّمت لتمكين الحلقة الضيقة من مفاصل الاتصالات والمال والتجارة.
هكذا تصبح الدولة مظلّةً قانونية لحماية الامتياز لا أداةً لتوزيع عادل للثروة، ولا تتوقف الصورة عند العموميات؛ فالمستوى الرمزي يفضح الحقيقة الاجتماعية.
يكفي أن نتذكّر مشاهد البذخ الفاضح في «عرسٍ» عائليّ يتصل بشخصية أمنية رفيعة مثل علي شمخاني، وكيف أصبح الفيديو عنواناً لازدواجية المعايير بين خطابٍ أخلاقيٍ صارم يُفرَض على الناس، وواقعٍ مترفٍ يُتاح للنخب خلف الأبواب المغلقة.
وعلى المنوال نفسه، تتكرّر قضايا الاستحواذ على أملاك عامة أو أراضٍ خضراء منسوبةٍ إلى مسؤولين دينيين نافذين، لتكشف أنّ «الوعظ» ينهار أمام وثائق الملكية حين تغيب الرقابة.
وفي القمة، تتراكم الثروات حول مؤسساتٍ ماليةٍ عملاقة محصّنةٍ من الشفافية، فيتحوّل الفساد من «مخالفات أفراد» إلى «بنية حكم».
هذه المقارنة لا تُطرح شماتةً ولا تدخّلاً في شؤون أحد؛ إنّها درسٌ سياسيٌّ وإداريٌّ لسوريا الجديدة: النزاهة ليست خياراً تجميلياً، بل شرط وجودٍ لدولةٍ تريد أن تُحترم داخلياً وتُصدَّق خارجياً.
الاقتصاد الوطني: الاستثمار يحتاج نزاهةً قبل رأس المال
الطريق إلى إعادة الإعمار يمرّ حتماً عبر استثماراتٍ محلية وخارجية، لكنّ رأس المال، قبل أن يسأل عن الحوافز، يسأل عن القواعد: هل المنافسة عادلة؟ هل العقود قابلة للتنفيذ القضائي؟ هل المعلومات المالية متاحة؟ ومن هنا، تكتسب معركة الشرع ضد الفساد قيمةً اقتصادية مباشرة: فهي تُقلّص «تكلفة المخاطر»، وتمنح المستثمرين معياراً موضوعياً للثقة، وتوفّر للدولة فرص تمويلٍ بشروطٍ أفضل.
النزاهة، بهذا المعنى، ليست تكلفةً على الاقتصاد، بل «عائد» طويل الأجل على الاستقرار والنمو.
المجتمع والدولة: شراكة ضد الفساد لا تُربَح
معركة النزاهة من فوق فقط؛ فهي تحتاج إلى شراكةٍ مجتمعية واعية.
الصحافة الوطنية مسؤولة عن متابعة الإنفاق العام ومساءلة الأداء من دون تشهير، الجامعات والنقابات معنيّة بإدماج أخلاقيات الوظيفة العامة في المناهج والتدريب، ومنظمات المجتمع المدني مطالبةٌ بتطوير أدوات رصدٍ وطنيّة تتعاون مع السلطة القضائية. بهذه الشراكة، تتحوّل مكافحة الفساد إلى ثقافة عامة، ويُصبح كلُّ موظفٍ «مبلّغاً محتملاً»، وكلُّ مواطنٍ «راصداً للمنفعة العامة».
معيار أخلاقي إقليمي: حين تقول المعارضة الإيرانية «لا للمال ولا للمناصب»
على الضفة الأخرى من الحدود، يتقدّم خطابٌ أخلاقيٌّ تعلنه زعيمة المعارضة الإيرانية السيدة مريم رجوي: «لا نريد مالاً ولا مناصب، هدفنا إعادة السيادة والحرية إلى الشعب».
هذا التصريح مهما اختلفت التقديرات السياسية يُعيد تعريف معيار الشرعية: السلطة التي تحترم الناس لا تغتصب حقوقهم الاقتصادية ولا توزّع خيرات البلاد على الحلقة الضيقة.
ومع أنّ سوريا اليوم تكتب تجربتها الخاصة، فإنّ تطهير الإدارة من تضارب المصالح، وتحويل الوظيفة العامة إلى تكليفٍ لا إلى امتياز، يضعها في الاتجاه الذي تتقاطع عنده الأخلاق مع السياسة ومع الاقتصاد معاً.
من الإرادة إلى المؤسّسة: خارطة الطريق السورية
حتى تترسّخ مكاسب اللحظة، لا بدّ من الانتقال السريع من «الإرادة» إلى «المؤسّسة».
ويمكن تلخيص الخطوات العملية بثلاثة مسارات متكاملة:
1. شفافية مُلزِمة: إنشاء سجلّ إلكتروني علني لتصاريح الذمة المالية، يحدَّث دورياً لكبار الموظفين والمتعاقدين العموميين، ويتضمّن الأصول والمداخيل والأنشطة الجانبية.
2. قضاء مستقلّ ومساءلة فعّالة: دوائر قضائية متخصّصة بجرائم الفساد، نيابةٌ مالية، وحماية قانونية للمبلّغين، مع نشرٍ دوري لبيانات القضايا المغلقة والأحكام النهائية.
3. اقتصاد تنافسي يحاصر الريع: تفكيك الاحتكارات غير المبررة، رقمنة المشتريات العامة من العطاء حتى التسليم، وتعميم نظام تتبّعٍ يضبط سلسلة التوريد والدفعات.
بهذه الأدوات، تُصبح «المحاسبة» عملاً يومياً، ويصبح «الاستثناء» نشازاً يُكشف بسرعة، وتتكرّس الثقة بين الدولة والمجتمع.
خاتمة: رسالة دمشق إلى الداخل والخارج
إنّ ما بدأه الرئيس أحمد الشرع ليس حملة علاقات عامة، بل إعلان مسار دولة.
والمعيار بسيط وواضح: لا امتياز فوق القانون، لا قرابة فوق المصلحة العامة، ولا رفاه خاصّ على حساب شعبٍ يريد أن يرى ثمرة صبره دولةً عادلةً وقادرة.
وفي الوقت الذي تتحوّل فيه بعض الأنظمة الإقليمية إلى «هياكل ريع» مغلقة، تختار سوريا الجديدة أن تقول: الدولة أوّلاً.. دولة شفافة، عادلة، قادرة على تحريك عجلة الإعمار، وواثقة بأنّ النزاهة ليست شعاراً بل سياسة.
بهذه الروح، تتقدّم «الثورة» من الميدان إلى المؤسّسات، ومن الشعارات إلى القوانين.
والمعركة مفتوحة، لكنها هذه المرّة لمصلحة السوريين جميعاً: دولة تحمي حقهم، وقضاءٌ يُنصفهم، واقتصادٌ يستثمر جهدهم.
هكذا فقط تُبنَى الثقة، وتبدأ إعادة الإعمار من الأساس الصحيح.