الثورة – هنادة سمير:
عندما غادر أنس الحلبي (62 عاماً) مبنى عمله للمرة الأخيرة، شعر أنه يخلع جزءاً من روحه، يقول: كنت المهندس أنس طوال 38 عاماً، فجأة أصبحت مجرد “رجل ستيني” في عيون المجتمع، حتى أصدقائي كانوا يتصلون ليسألوني عن معاشي وصحتي، لا عن رأيي في مشروعات جديدة.
قصة أنس ليست استثناءً، فبحسب الدراسات كثير من المتقاعدين يواجهون ما يسميه الخبراء “الصدمة الهوياتية” تلك اللحظة التي يختفي فيها اللقب الوظيفي الذي كان يمثل الإجابة الوحيدة عن سؤال “من أنا؟”.
رحلات البحث عن الذات
تقول ندى السباعي (59 عاماً) وهي تعرض لوحاتها في معرضها الشخصي الأول: بعد التقاعد بعام، اكتشفت أن لديّ يدان لم أعرفهما من قبل، يدان ترسمان مشاعري بدلاً من توقيع الأوراق الرسمية، عندما كنت مديرة مالية في إحدى المؤسسات حتى في المناسبات العائلية لم يكن يفارقني هذا اللقب.
الطبيب خالد داوود (65 عاماً) أمضى أربعة عقود في غرف الطوارئ، لكنه يجد نفسه اليوم في هدوء مكتبته الشخصية.
يقول: كنت أتشرب هوية الطبيب المنقذ، حتى في نومي كنت أسمع نداءات الطوارئ، بعد التقاعد، أصبت بفراغ الهوية، يواصل د. خالد: بدأت أكتب مذكراتي، ثم تحولت إلى مقالات طبية توعوية، واكتشفت أن الكلمات يمكن أن تشفي أيضاً، اليوم يأتيني شباب يقولون إن مقالاتي غيرت نظرتهم للصحة، وهذا يعطيني هوية جديدة: الطبيب الكاتب.
الخبيرة الاجتماعية نوار الحمصي تبين في حديثها “للثورة” أن المشكلة تكمن في أن مجتمعنا يربط الهوية بالوظيفة بشكل شبه كامل، فعندما تسأل شخصاً من أنت، أول إجابة ستكون مهنته، وتضيف: النجاة من هذه الأزمة تتطلب بناء ما نسميه ‘الهوية المتعددة’، فأنت لست مهندساً فقط، بل أب أيضاً، صديق، قارئ، متطوع، فنان، والنجاح يكمن في تحويل هذه الهويات الثانوية إلى هويات رئيسية.
موضحة: الانتقال من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة المعنى أمر ليس سهلاً، فكثير من المتقاعدين يعانون من أعراض تشبه الاكتئاب، لكنها في الحقيقة أعراض فقدان الهوية.
وترى أن العلاج يبدأ بقبول الهوية المهنية على أنها فصل من فصول الحياة، وليست القصة كاملة، ثم الانتقال إلى اكتشاف الفصول الأخرى التي كانت مهملة.
من العائق إلى المحفز
تلفت الخبيرة الحمصي إلى أهمية دور الأسرة التي يمكن أن تسهم في مساعدة المتقاعد على تجاوز أزمة الهوية، فبدلاً من التعامل معه على أنه أصبح عاطلاً عن العمل أو في إجازة دائمة، يمكن للأسرة أن تشجعه على اكتشاف مهاراته واهتماماته الجديدة.
وتتابع : على الأسرة أن تدرك أن المتقاعد يمر بمرحلة انتقالية حساسة، بدلاً من تركه وحيداً مع أفكاره، أو إشغاله بأمور تافهة، يمكن تشجيعه على المشاركة في أعمال تطوعية، أو متابعة تعلم مهارات جديدة، أو حتى كتابة مذكراته وخبراته الحياتية”.
في العديد من المجتمعات المتقدمة، أصبح هناك وعي بأهمية التمهيد للتقاعد النفسي والهوياتي، وليس فقط التقاعد المالي، فقبل سنة أو سنتين من موعد التقاعد يبدأ الموظف في التحضير لهذه المرحلة من خلال دورات توعوية وبرامج إرشادية.
وترى الحمصي أن: التمهيد للتقاعد يجب أن يكون جزءاً من الثقافة المجتمعية، فكما نستعد للزواج أو للأمومة، علينا أن نستعد لمرحلة التقاعد، هذا الاستعداد لا يعني فقط توفير المال، بل يعني أيضاً إعداد النفس لمرحلة جديدة من الحياة.
استراتيجيات عملية
وتتحدث الحمصي عن عدة استراتيجيات يمكن أن تساعد المتقاعد في بناء هوية جديدة متكاملة منها استراتيجية الاستكشاف من خلال تجربة أنشطة جديدة لم تكن متاحة أثناء سنوات العمل، مثل السفر، أو تعلم لغات، أو ممارسة هوايات.
وهناك استراتيجية التوثيق لكتابة المذكرات، أو تسجيل الشهادات الحية، أو جمع الصور القديمة، هذه العملية تساعد المتقاعد على رؤية حياته كقصة متكاملة، وليس فقط كسلسلة من الأدوار الوظيفية، إضافة لاستراتيجية العطاء التي تعني المشاركة في أعمال تطوعية أو خيرية، أو تدريب الشباب، أو تقديم الاستشارات في مجال الخبرة، فهذا يساعد المتقاعد على الشعور بقيمته المستمرة في المجتمع، يضاف إليها استراتيجية التعلم من خلال الالتحاق بدورات تعليمية، أو حضور محاضرات، أو حتى الالتحاق بالجامعة، فالتعلم المستمر يساعد على تجديد الهوية والشعور بالتطور الدائم.
التحديات والعقبات
وتشير الحمصي إلى أنه رغم أهمية هذه الاستراتيجيات، إلا أن المتقاعدين يواجهون تحديات عدة تعيق عملية إعادة بناء الهوية، فالكثير من البرامج والأنشطة موجهة للشباب أو لفئات عمرية محددة، كما أن النظرة النمطية المجتمعية لكبار السن تحد من فرص مشاركتهم الفاعلة في العديد من المجالات.