أصوات الباعة الجوالين بحلب.. بين الحاجة والإزعاج

الثورة – تحقيق جهاد اصطيف:

في قلب مدينة حلب، وبين أزقتها المكتظة بالحياة اليومية، يعلو صوت جديد أصبح جزءاً من المشهد السمعي اليومي، لكنه في الوقت نفسه مثار جدل وشكاوى متكررة،

أصوات مكبرات الصوت المحمولة على عربات الباعة الجوالين، التي لا تكاد تهدأ نهاراً، ولا ليلاً، صارت تمثل صداعاً يومياً لأهالي الأحياء السكنية، وعلى رأسها حي الإسماعيلية، حيث توالت الشكاوى إلى الجهات المعنية، دون حلول ملموسة حتى الآن. يتساءل السكان بمرارة: إلى متى ستظل أبواق الباعة الجائلين تصدح بمكبرات الصوت بلا ردع ولا تنظيم!؟ وإلى متى يبقى حق الراحة في البيوت مؤجلاً؟

من المعاناة إلى الصرخة

يشير “بكري. ر” أحد سكان حي الإسماعيلية في حديثه لصحيفة الثورة إلى أن أهل الحي لا ينعمون بساعات هدوء، فمكبرات أصوات الباعة تدخل من النوافذ المغلقة، وتوقظ المريض والطفل والطالب.

لقد أصبحت هذه الظاهرة معاناة يومية لا تنتهي. وتروي الطالبة الجامعية “ريم. س”: امتحاناتي تحتاج إلى تركيز طويل، لكن منذ الصباح الباكر، يمر بائع الخضار، يليه بائع المنظفات، ثم بائع الغاز، وكل واحد منهم يحمل مكبرته الخاصة ويصرخ بما تيسر من عبارات دعائية، في النهاية، أشعر أنني أدرس داخل سوق للنحاسيات، أو في بازار للبيع والشراء.

في الأحياء الشعبية الأخرى، تتكرر المعاناة نفسها، فهذه “صبحية عبد الغفور”، ربة منزل، تقول: لدي حفيد رضيع، ونعاني كثيراً معه بسبب قلة النوم، وما إن ينام حتى يمر بائع يصيح بمكبرته فيستيقظ من جديد، حياتنا تحولت إلى جحيم حقيقي.

لا يقتصر الأمر على الإزعاج فقط، بل يمتد إلى الشعور بفقدان الخصوصية، إذ يعلق “نبيه كابي”، من سكان حي الأشرفية: حين تجلس في بيتك وتسمع أصوات الباعة المتكررة، تشعر أن جدران منزلك لم تعد كافية لحمايتك من ضجيج الشارع، وكأن بيتك فقد وظيفته الأساسية المتمثلة بالراحة والهدوء.

من اللافت أن بعض الأهالي، رغم معاناتهم، يتعاطفون مع الباعة. تقول “سعاد مهنا”: نحن نتضايق من الصوت طبعاً، لكن حين أنظر إلى حال هؤلاء الشباب، أجد أن الأمر أكبر من مجرد إزعاج، هم أيضاً أبناء هذه المدينة ويحاولون أن يعيشوا بكرامة، ربما الحل أن تساعدهم الجهات الرسمية على تنظيم عملهم بدل منعهم.

هذا الصوت يعكس جانباً من الوعي الاجتماعي الذي لا يريد التضحية بأحد الطرفين، لا بحق المواطن في الراحة ولا بحق البائع في العمل.

مبررات وواقع صعب

في الطرف الآخر من المعادلة، يقف الباعة الجوالون الذين يدافعون عن أنفسهم بشدة، فهذا “عمر داغر”، بائع خضار، يوضح: نحن لا نملك محلاً ثابتاً، ولا قدرة على دفع إيجارات باهظة، هذه العربات هي رزقنا الوحيد، والمكبرة هي الوسيلة الوحيدة لنخبر الناس أننا هنا، إذا لم نرفع صوتنا، لن يشتري أحد منا شيئاً.

ويضيف “غيث محمد”، بائع آخر: أعرف أن بعض الأهالي ينزعجون، لكن ماذا نفعل؟ الظروف الاقتصادية خانقة، فالناس بالكاد يشترون حاجاتهم، ولو جلسنا صامتين فلن نبيع شيئاً، نحن أيضاً نعيش على الكفاف، ونحتاج لإطعام أولادنا.

كلماتهم تعكس مأزقاً اقتصادياً حقيقياً، فالكثير من هؤلاء الباعة فقدوا مصادر رزقهم الأخرى بسبب الحرب وتراجع النشاط التجاري، واضطروا إلى الاعتماد على التجارة الجوالة، لكن في سعيهم لكسب الرزق، يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع شكاوى السكان الذين يرون في مكبراتهم تهديداً لراحتهم اليومية.

نصوص موجودة ورقابة غائبة

المكتب الإعلامي لمجلس مدينة حلب وفي معرض رده على تساؤلات “الثورة” حول موقف المحافظة من هذه الظاهرة، أوضح أنه لم يصدر أي قرار بعد بخصوص البائعين الجوالين، مضيفاً أنه من خلال الجولات المركزة التي يقوم بها المجلس بين الحين والآخر يتم التعامل فوراً مع البائعين المخالفين من خلال إنذارهم ومن ثم التعامل معهم أصولاً، مؤكداً أن القوانين المحلية واضحة، فاستخدام مكبرات الصوت في الأحياء السكنية من دون ترخيص يعد مخالفة. القانون موجود إذاً، لكن تطبيقه ما زال جزئياً، وهنا تكمن المعضلة: بين النصوص التي تمنع وبين الواقع الذي يفرض نفسه.

الخبير الاجتماعي حيدر السلامة، يرى أن الظاهرة تعكس فجوة اجتماعية واقتصادية واضحة، ويشرح قائلاً: من جهة، هناك مواطن يبحث عن الهدوء والراحة في بيته، ومن جهة أخرى هناك بائع يحاول تأمين قوت يومه، المشكلة ليست في البائع ولا في المواطن، بل في غياب التنظيم الذي يضمن حق الطرفين.

وأوضح أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد دفعت عدداً متزايداً من الناس إلى الاعتماد على البيع الجوال، لكن غياب البدائل التجارية المنظمة، مثل الأسواق الشعبية أو التعاونيات، يجعلهم يعتمدون على أساليب تقليدية مزعجة كالمكبرات، والحل لا يكون بالمنع وحده، بل بتوفير أماكن وأساليب بديلة للتسويق.

حلول مطروحة

أمام هذا الواقع، تتعدد المقترحات، بعض الأهالي يقترح تخصيص أماكن محددة للبائعين، كالساحات أو الأسواق الشعبية، بحيث يتوجه إليهم الزبائن طوعاً، دون الحاجة إلى إزعاج السكان.

آخرون يرون ضرورة تحديد ساعات عمل مسموحة للباعة الجوالين، بحيث لا تمتد إلى الليل. في المقابل، يقترح البعض إيجاد منصات إلكترونية محلية أو مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي، تمكن الباعة من الإعلان عن وجودهم وعروضهم دون الحاجة إلى مكبرات الصوت.

لكن كل هذه الحلول تبقى نظرية ما لم تتبنها جهة رسمية قادرة على التنظيم والمتابعة.

ما بين الحقين

الظاهرة إذاً ليست مجرد إزعاج صوتي، بل مرآة لواقع اقتصادي واجتماعي معقد في حلب، الباعة الجوالون يرفعون أصواتهم طلباً للرزق، والسكان يرفعون أصواتهم طلباً للهدوء، بين الصرختين، يقف القانون ضعيف التطبيق، والجهات المعنية مترددة بين المنع والتنظيم.

يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع المدينة أن تجد صيغة توازن بين حق الساكن في بيئة هادئة، وحق البائع في العمل؟ أم أن مكبرات الصوت ستظل هي الحكم الفعلي في شوارع حلب؟ الجواب لا يزال معلقاً، ريثما تتحول الشكاوى المتكررة إلى خطوات عملية تعيد التوازن إلى حياة المدينة.

آخر الأخبار
تعليق "قيصر".. اختبار لجديّة الإصلاح الاقتصادي والقدرة على استعادة التوازن النقدي من "البيت الأبيض" إلى "الداوننغ ستريت".. الشيباني يحمل الحقيبة "الأثقل" إلى بريطانيا زيارة الشرع للولايات المتّحدة تمثّل بداية جديدة للسوريين عندما يتوقف التاريخ في استثمار البيئة الجبلية والبحرية.. وتهجر الكوادر رئيس غرفة الملاحة البحرية للثورة: الساحل عقدة تلاقٍ بريّ- بحريّ نحو اقتصادٍ أزرق وتنمية متوازنة: اللاذقية وطرطوس.. بوابتان لنهضةٍ بحرية رؤساء في العلاقات الخارجية بالشيوخ الأميركي يدعمون رفع العقوبات عن سوريا طلاب "المهني" في حلب يجهزون مقاعد مدارسهم بين الدولار والتجار.. كيف يواجه المواطن تحديات المعيشة؟ زيارة إلى المملكة المتحدة.. الشيباني يحمل حقيبة ثقيلة في اللقاء السوري-البريطاني المطالعة.. بين الحاجة والرفاهية أصوات الباعة الجوالين بحلب.. بين الحاجة والإزعاج المتقاعدون ورحلة البحث عن عمل بازار الشتاء.. منصة تمكين اقتصادي واجتماعي للمرأة السورية عندما يختفي اللقب الوظيفي.. رحلة البحث عن الهوية بعد التقاعد رياضة المتقاعدين في حلب.. صداقات وشفاء من الوحدة والاكتئاب بين " قيصر" والعملة الجديدة.. خطوة سياسية أولاً.. وفرصة اقتصادية ثانياً اكتمال مشهد الدور الثاني من مونديال الناشئين الجمعة.. البطولة الكروية حلب (ست الكل) الصمت العنوان الأبرز لنادي الكرامة ؟!