الثورة – ميسون حداد:
لم يعد غلاء الأسعار في سوريا مجرّد حديث يومي عابر، بل تحوّل إلى هاجس يثقل حياة الأسر ويمتحن صبر ذوي الدخل المحدود الذين يواجهون صعوبة متزايدة في تأمين حاجاتهم الأساسية، فالراتب رغم الزيادة لم يعد يكفي، والأسواق تتبدّل أسعارها كل يوم، فيما يبقى المواطن الحلقة الأضعف بين تقلّبات الدولار وغياب الرقابة الفاعلة.
وسط هذا المشهد المعيشي، تتقاطع الأزمات الاقتصادية مع التحولات الاجتماعية، لتكشف عن حاجة ملحّة إلى توازن جديد، وكان لـ”الثورة” عدة لقاءات مع خبراء في الاقتصاد وعلم الاجتماع، حول الواقع المعيشي والحلول الممكنة.
عوامل ارتفاع الأسعار
يُجمع الاقتصاديون على أن الارتفاع المستمر في الأسعار يرتبط بعوامل بنيوية وخارجية متشابكة، في مقدمتها تدني قيمة الليرة السورية أمام الدولار، إذ تراوح سعر الصرف في أيلول 2025 بين 11,300 و12,000 ليرة للدولار الواحد، ما انعكس مباشرة على تكلفة الاستيراد ورفع معدلات التضخم السنوية إلى نحو 58%.

ويقول الدكتور هشام خياط رئيس مجلس إدارة الجمعية السورية لمستشاري الإدارة لـ”الثورة”: “الاقتصاد السوري يعاني مزيجاً من الضغوط، بعضها خارجي مثل تقلبات الدولار وكلف النقل العالمية، وبعضها داخلي مرتبط بضعف الإنتاج المحلي والرقابة التموينية”.
ويبيّن أن المنتجات الغذائية شهدت الارتفاع الأكبر، إذ ارتفعت أسعار الزيت والدجاج بنسبة تراوحت بين 20 و30% نتيجة الجفاف الذي خفّض الإنتاج المحلي بنحو 40%، في حين ارتفعت المعلبات والالكترونيات بنسبة أقل (15-25%) لارتباطها بالاستيراد المباشر.
من جهته، يوضح محمد الحلاق، نائب رئيس غرفة تجارة دمشق سابقاً لـ “الثورة”، أن التمييز بين ارتفاع الأسعار وارتفاع سعر الصرف ضروري لفهم الظاهرة، فالأول قد يسبق الثاني أحياناً، نتيجة توقعات السوق، ويضيف أن الاقتصاد السوري تحول في السنوات الأخيرة إلى اقتصاد استهلاكي يغلب عليه الطابع التجاري أكثر من الصناعي والزراعي، ما جعل أي حركة في سعر الصرف تنعكس بسرعة على الأسعار النهائية.

ويرى أن التحول من اقتصاد السوق الموجّه إلى اقتصاد السوق الحر التنافسي جاء بشكل صادم، ما تسبب بخلخلة في التوازنات بين العرض والطلب، ورفع أسعار المواد الأولية الداخلة في الإنتاج بسبب تبعيتها للأسعار الخارجية.
ويضيف الباحث مهند ميا، دكتوراه في كلية التربية، مدرب تأهيل ومهارات معتمد، واستشاري نفسي اجتماعي، لـ “الثورة”، أن هذا الغلاء ترك أثره العميق على ميزانيات الأسر السورية، فالقوة الشرائية تراجعت بشكل ملحوظ، وبدأت العائلات تعيد ترتيب أولوياتها بما يتناسب مع الموارد المحدودة والدخل الثابت أو المتذبذب.
وباتت معظم الأسر تميل إلى تقليص الإنفاق على الكماليات والأنشطة الترفيهية لصالح تأمين الضروريات الأساسية كالخبز والزيت والحبوب، فيما لجأت بعض العائلات إلى شراء كميات أقل بأسعار أعلى أو البحث عن بدائل أرخص في الأسواق الشعبية.
الدولار ليس العامل الوحيد
لم يعد الدولار العامل الوحيد المؤثر في الأسعار، فبحسب خياط، باتت الأسباب الداخلية مثل ضعف الرقابة التموينية وفوضى الأسعار أكثر تأثيراً من العامل الخارجي وحده.
ويشير إلى أن التضخم بلغ في شباط 2025 نحو 15.8%، مدفوعاً بالقرارات النقدية مثل سياسة “تجفيف السيولة”، التي أفرزت تفاوتاً بالأسعار بين المحال بنسبة تتراوح بين 10 و15%.
في المقابل، يلفت الحلاق إلى أن ارتفاع المحروقات والطاقة والنقل لعب دوراً مركزياً في رفع أسعار السلع والخدمات، فبينما شهدت بعض المواد المستوردة انخفاضاً نسبياً، ظلت الأسعار النهائية مرتفعة بفعل زيادة المصاريف التشغيلية على الشركات والمنتجين المحليين، ويعتبر أن: “أسعار الخدمات اليوم لا تعكس فقط تكلفة المادة الخام، بل أيضاً الأعباء المرافقة لها من نقل وكهرباء وتمويل”.

ويُبرز ميا أن تأثير الغلاء لا يقتصر على السلع، بل يمتد إلى نوعية الغذاء وجودته، إذ أدى ارتفاع تكاليف المواد الأساسية إلى تقليص التنوع الغذائي، خاصة البروتينات والفواكه والخضراوات الموسمية، ما أثر سلباً في تغذية الأطفال والنساء وكبار السن. كما أصبحت الأسر تعتمد على منتجات محلية أقل تكلفة أو تلجأ إلى الزراعة المنزلية لتأمين جزء من احتياجاتها الغذائية. الجشع وضعف الرقابة
يعتبر الدكتور هشام أنّ أحد أبرز أسباب التضخم المستمر هو ضعف الرقابة التموينية، التي يقدّر تأثيرها بما يصل إلى 30% من تضخيم الأسعار، تضاف إليها نسبة 20% ناجمة عن جشع بعض التجار.
ويرى أن غياب السياسة الاقتصادية الواضحة ولّد ما يمكن تسميته فوضى اقتصادية منظمة، داعياً إلى تفعيل أدوات رقابية أكثر شفافية وربطها بتطبيقات رقمية توثق الأسعار وتتيح للمواطن المقارنة.
وفي الوقت ذاته، يؤكد على أهمية الدور الأخلاقي للقطاع التجاري في مرحلة إعادة البناء، موضحاً أن التاجر الشريف يمكن أن يكون شريكاً في التنمية إذا وُجدت مبادرات ذاتية تقوم على الشفافية والمسؤولية الاجتماعية.
آليات ضبط الأسواق
يرى الخبراء أن ضبط الأسواق لا يعني بالضرورة العودة إلى التسعير الإجباري، بل إيجاد توازن بين الرقابة والمرونة، ويقترح خياط مجموعة من الآليات منها إلزامية كتدوين السعر النهائي على كل سلعة، وتوسيع استخدام تطبيقات إلكترونية لمراقبة الأسعار، إضافة إلى تنظيم عمليات الاستيراد لتجنب نقص المواد، كما يدعو إلى برامج شراكة بين الحكومة والتجار لتخزين السلع الأساسية، بما يضمن استقرار الإمدادات ويمنع الإغلاق أو الاحتكار.
ويشير إلى أن مثل هذه الآليات كفيلة بتحويل التاجر من “ضحية التنظيم” إلى “حارس السوق” الذي يسهم في تحقيق الاستقرار والنمو معاً.
الفجوة بين الرسمي والمتداول
الفجوة السعرية بين التسعيرة الرسمية وسعر السوق لا تزال قائمة وتتراوح بين 5 و10%، ويمكن تقليصها، كما يرى خياط، عبر توحيد السوق ومراقبة السيولة النقدية، وتشجيع التجار على اعتماد تسعير شفاف مقابل حوافز ضريبية.
ويقترح إطلاق أسواق إلكترونية للمقارنة المباشرة بين الأسعار، بما يسهم في تقليص الفجوة بنسبة تصل إلى 15% خلال أشهر، ويعزز الثقة بين التاجر والمستهلك.
المواطن في مواجهة الغلاء في مواجهة هذه الظروف، يضطر المواطن السوري إلى التكيّف القسري، إذ انخفض إنفاق الأسر على الكماليات بنسبة تقارب 40%، مقابل تركيز الإنفاق على الأساسيات، واتجاه بعض الأسر إلى الزراعة المنزلية التي ارتفعت نسبتها إلى 25%.
ويرى خياط في ذلك مؤشراً على وعي مجتمعي متزايد في ترشيد الاستهلاك، داعياً إلى برامج “تسعير اجتماعي” تدعم الشرائح الأقل دخلاً، أما الحلاق فيعتبر أن الحل الحقيقي يكمن في زيادة الإنتاج والتوظيف ورفع القدرة الإنتاجية، مؤكداً أن الحكومة مطالبة بالاستماع إلى هموم المنتجين في مفاصل العمل وتقديم الدعم الملائم، لأن “كل زيادة في الإنتاج تعني توظيفاً أكبر وانخفاضاً في أسعار العمالة”، ويشير إلى أن نحو 90% من الأسر السورية اليوم تعيش عند حد الكفاف، ما جعل الطلب محصوراً بالاحتياجات الأساسية.
وفي هذا الإطار، يوضح ميا أن تدهور الوضع المعيشي أجبر الأسر على اتخاذ قرارات صعبة، كتقليص الإنفاق الصحي والتعليمـي أو البحث عن مساكن أرخص وأحياء أقل تكلفة. فالكهرباء والوقود باتا يشكلان عبئاً متزايداً، ما يدفع العائلات إلى تقنين استهلاك الطاقة أو اعتماد مصادر بديلة، كما تزايد اعتماد الأسر على أكثر من مصدر دخل واحد، من خلال العمل الإضافي أو مشاريع منزلية صغيرة لتعويض الفجوة بين الدخل والاحتياجات.
القطاعات الأكثر تأثراً يُجمع الاقتصاديون على أن قطاع الغذاء كان الأكثر تأثراً بالغلاء، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 30% نتيجة الجفاف وتراجع الإنتاج المحلي، يليه قطاع النقل الذي ارتفع بنحو 20% بسبب زيادة أسعار المحروقات، ثم قطاع الإيجارات بنسبة 15% بفعل الضغط السكاني بعد موجات العودة الداخلية.
ويشير الحلاق إلى أن بعض القطاعات بدأت تشهد وفرة نسبية في المعروض، مثل السيارات، بفضل ارتفاع التنافسية، إلا أن “السوق ما زال يعاني تشوهات عميقة بسبب التحول السريع إلى اقتصاد مفتوح بعد ستين عاماً من الانغلاق”، ما يجعل التوازن بين العرض والطلب بحاجة إلى وقت وإدارة مدروسة.
دور الحكومة
يرى خياط أن الحكومة مطالبة باتخاذ إجراءات عاجلة لضبط الأسعار من دون تحميل المواطن عبئاً إضافياً، مثل زيادة الرواتب بنسبة 200% لتدارك التضخم، وتثبيت أسعار المحروقات، ودعم الإنتاج المحلي عبر إعانات مباشرة، ويعتبر أن هذه السياسات قادرة على تحقيق توازن اقتصادي عادل وتشجيع الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.
أما الحلاق فيشدد على ضرورة تعزيز المشاركة الداخلية في صنع القرار الاقتصادي، موضحاً أن “المستثمر الخارجي لن يأتي ما لم يرَ المستثمر الداخلي يعمل بثقة”.
ويرى أن الإصلاح الاقتصادي يبدأ من الاستماع إلى الغرف والنقابات، فالكثير من القرارات الحالية تخلق إرباكات لأنها تصدر من دون نقاش مهني كافٍ، ويضيف: “الاقتصاد لا يُدار بالعواطف والوعود، بل بتشريعات وقوانين مبسطة، حيث يُدعم الضعيف ليصبح قوياً، ويُسهم القوي في دعم الأضعف، شرط أن تكون الشراكة حقيقية لا شعارات”.
الدخل والقيم الاجتماعية
ارتفعت نسبة العمل الإضافي، والغش التجاري في بعض القطاعات، مقابل زيادة مظاهر التعاون والتكافل في أخرى.
ويقول خياط: إن الشراكات التجارية والاجتماعية يمكن أن تحوّل الأزمة إلى فرصة لتعزيز قيم التضامن، في حين يحذر الحلاق من أن استمرار الفجوة الاقتصادية قد يؤدي إلى تآكل القيم الأساسية وانخفاض الإحساس بالانتماء.
ويرى ميا بالمقابل أن الأوضاع الصعبة أعادت إحياء روح التكافل الاجتماعي، حيث توسّعت دوائر الدعم بين الأسر والجيران والمجتمع المحلي، لتشكّل شبكات حماية غير رسمية تعوّض جزئياً ضعف الدعم المؤسسي، كما برزت أنماط جديدة في سلوك العمل والبحث عن الأمان المهني، إذ اتجه كثيرون نحو المهن الحرة أو الأعمال الإضافية لتأمين دخل مستقر في ظل انعدام اليقين الاقتصادي.