ما تفرقه المسافات تجمعه اللهجات برمز جمالي.. هنا سوريا

الثورة – محمد الحريري:

في سوريا، لا تقاس الحدود بالكيلومترات، وإنما باللهجات واختلافها الذي يشكل نسيجاً سورياً أصيلاً. فلهجة أهلنا في الساحل تحرس الشمال الغربي بنغمتها المبللة بنسيم البحر، وبين الشرق والغرب لهجة حلب، جسر يجمع التاريخ بالحضارة، وعلى أطلال الفرات لهجة تنبض بصوت الأرض وسنابل القمح. وفي أقصى جنوبها درعا والسويداء أنغام مختلفة يجمعها كرم السهل وصلابة الجبل، فهذه الفسيفساء اللغوية تلتقي في دمشق بصوت واحد وقلب واحد ينبض لسوريا.

فاللغة العربية بما تحمله من فصاحة وجمال، كانت الوعاء الذي يجمع كل هذه اللهجات، فهي ذاكرة، تسكن البيوت والمقاهي والأغاني الشعبية، لغة جامعة تحفظ رائحة الأماكن وتروي التاريخ.

نزوح الكلمات والأرواح

منذ اندلاع الثورة السورية، لم يقتصر النزوح فيها على الأفراد، بل شمل نزوحاً لغوياً صامتاً، فمع التهجير بدأت اللغة العربية واللهجات المحلية بفقدان توازنها الطبيعي في النسيج السوري. يقول الأستاذ في قسم اللغة العربية، جمعة الحريري: “إن اللهجات جزء أساسي من هوية الفرد، والنزاع في سوريا ترك أثراً عميقاً في البنية اللغوية للمجتمع”، مشيراً إلى خطورة هذه المرحلة وتأثيرها على دور اللغة العربية في المجتمع. وبدورها تؤكد الدكتورة ولاء يوسف، رئيسة قسم علم الاجتماع، أن تبعات النزوح قد تلغي خصوصية اللغة العربية واللهجات المحلية، قائلة: “إن حركة التهجير أدت إلى ذوبان الخصوصية اللغوية، ودخول مفردات أجنبية جديدة، كالتركية، الألمانية والإنجليزية”، ما يشكل هوية لغوية هجينة، تعكس واقعاً اجتماعياً مضطرباً.

الأدب.. حارس الذاكرة اللغوية

يقع على عاتق الأدب مسؤوليات كبيرة، فهو لا يروي الواقع فقط، وإنما يوثق تفاصيله الأكثر حيوية، ولعلّ أهمها: اللغة واللهجات المحلية. فالرواية، الشعر الشعبي، المسرح ومختلف أشكال الأدب، كلها أدوات قادرة على حفظ اللهجة وتوثيقها للأجيال القادمة. ويوضح الحريري ذلك بقوله:” إن المحاولة في توثيقها ليست بالأمر السهل، ولكننا نسعى لتكوين هوية ثقافية جامعة”، فيرى أن الكتابة بالعامية قد تبدو تحدياً أمام اللغة الفصحى، لكنها في الحقيقة استمرار للحياة داخل اللغة نفسها، بوجوهها المتعددة، فالأدب وثيقة حيّة للذاكرة الصوتية والثقافية، تذكّرنا أن كلّ كلمة تُقال هي جزء من هوية الوطن.

اللّغةوالهوية

إن بلاغة اللغة العربية تطغى على الخطابات المحورية الرسمية وغير الرسمية، لكن ظروف المكان الجغرافي غيرت حال المواطن من حيّز مألوف بلغته الأم إلى حيّز مختلف بلغة جديدة بعيدة عن اللغة العربية الفصحى وعن لهجته المحلية المألوفة. وقد كان للقرآن الكريم، ثم الأدب بروايته وشعره الدور الكبير في حفظ اللغة في بلاد المهجر، كما كان للموروث الشعبي المتداول مهمة بينة في حفظ اللسان العربي، وتفاعل الأجيال معه. وهذا ما أكدته الدكتورة إخلاص الجهماني، الباحثة في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، إذ ترى أن الأدب العربي والرواية الشفوية تشكل جسراً حيّاً بين اللغة العربية الفصيحة واللهجات المحلية، وتقول: “إن اللغة العربية بما تحمله من فصاحة وجمال، هي الأصل الجامع للكلام التراكمي، ولكن لا يمكن تجاهل اللهجات المحلية المتناثرة بين الجغرافيا السورية؛ فهي تمثل ذاكرة الناس وحياتهم اليومية، لذا من الممكن التعامل معها ضمن أطر ومعايير معينة دون أن تتجاوز حدود اللغة العربية، فيمكن تفعيلها في الخطاب الإعلامي في إسقاطات بسيطة على الحياة اليومية”.

وترى الجهماني أن هذا التفعيل يمّر بتحديات عدّة، ومنها: تقبّل اللهجة المحلية داخل المجتمع، والحفاظ على علاقتها بالفصحى دون المساس بمكانتها، وتوظيفها في التوثيق الكتابي دون أن تفقد روحها الشفهية؛ فإن موقف الأدب من اللغة كوثيقة حيّة للذاكرة الصوتية والثقافية، يذكرنا أن كل كلمة تقال هي جزء من هوية الوطن.

حين تنطق الذاكرة

في خضم ما شهدته سوريا، سعت الدراما السورية إلى الحفاظ على الهوية الثقافية واللهجات المحلية، وقدمت أعمالاً أصبحت جزءاً في ذاكرة السوريين، ذاكرة تنطق باللهجة والوجدان. فمسلسل “ضيعة ضايعة” القصّة لم تكن وحدها ما جذب المشاهد وجعل منه عملاً جماهيرياً بامتياز، بل اللهجة الساحلية التي عكست بساطة وصدق أهل المنطقة، وحملت معها نكهة البحر وتفاصيل الحياة في القرى الساحلية، حتى صار الناس من مختلف المحافظات يرددون كلماتهم، يضحكون بها ويكتشفون جمالها. ثم كان مسلسل “الخربة”، ليمنح لهجة السويداء رونقاً مختلفاً وحضوراً طاغياً على الشاشة، فكانت مكوناً ثقافياً يفوح بنسيم الجبل وطباع أهله، لتجد هذه اللهجة المليئة بالمزاح والحكمة والسخرية اللاذعة طريقها إلى قلوب السوريين، والعرب على حدٍّ سواء. هكذا تحوّلت اللهجات إلى رمز جمالي، فالدراما لم تكتف بتصوير الأماكن، بل صبغتها بلهجتها الحقيقية، لتؤكد أن الاختلاف ماهو إلا ثراء في نسيج الهوية الوطنية.

وفي زمن المنصات الرقمية، لم تعد اللغة العربية الفصحى واللهجات أسيرة الجغرافيا، فاليوم، تنتشر المقاطع المصورة باللهجات السورية المختلفة عبر الإنترنت، وتحظى بملايين المشاهدات، هذا الفضاء المفتوح يلعب دوراً مهماً في تعزيز اللهجات وإبراز جمالها. فاللغة العربية كالبيت الذي يجمع كل السوريين، وتبقى اللهجات غرفه المتعددة، لكل غرفة لونها، ورائحتها، وإيقاعها الخاص.

 

 

آخر الأخبار
سوريا فرصة استثمارية لا تعوض الواقع الزراعي بطرطوس متهالك ولا يمكن التنبؤ بمصيره مجلس مدينة حلب يوقّع العقد التنفيذي لمشروع "Mall of Aleppo " تحذيرات أممية من شتاء قاس يواجه اللاجئين السوريين.. والحكومة تتحرك القابون .. وعود إعمار تتقاطع مع مخاوف الإقصاء  180يوماً.. هل تكفي لتعزيز الاستثمار وجذب رؤوس الأموال؟ تعليق العقوبات الأميركية ينهي العزلة التكنولوجية ويخفض تكاليف الاستيراد سوريا حاضرة في مؤتمر رؤساء البرلمانات الدولي بباكستان تخفيض أسعار المشتقات النفطية.. هل يوازن حركة العرض والطلب؟ محافظة حلب تبحث مع "اليونيسف" تطوير التعاون في قطاعي الطفولة والأمومة شركة محاماة أميركية تنصح ائتلافاً دولياً باستثمار تاريخي بقيمة 7 مليارات دولار في سوريا هيكلية "السورية للبترول" تصدر الأسبوع المقبل مستثمرو محال سوق الشهداء بدرعا يغلقون محالهم ويطالبون بإنصافهم قانون للمعلمين.. خطوة نحو إعادة الاعتبار للمدرسة والمعلم تخفيض أسعار المحروقات بين الواقع والانعكاس.. حلب تنتظر الدفء الحقيقي تعليق "قيصر".. اختبار لجديّة الإصلاح الاقتصادي والقدرة على استعادة التوازن النقدي من "البيت الأبيض" إلى "الداوننغ ستريت".. الشيباني يحمل الحقيبة "الأثقل" إلى بريطانيا زيارة الشرع للولايات المتّحدة تمثّل بداية جديدة للسوريين عندما يتوقف التاريخ في استثمار البيئة الجبلية والبحرية.. وتهجر الكوادر رئيس غرفة الملاحة البحرية للثورة: الساحل عقدة تلاقٍ بريّ- بحريّ