الثورة – ثورة زينية:
لم يكن لقاء محافظ دمشق الثاني مع أهالي حي القابون مجرد اجتماع إداري روتيني، بل بدا كأنه نافذة صغيرة تفتح على أمل غاب طويلا عن أحد أكثر أحياء العاصمة تضرراً. ففي جلسة وصفت بالودية، خرج اللقاء بجملة مخرجات عملية أعادت إلى الأهالي شيئا من الثقة المفقودة في إمكانية عودة الحياة إلى حيهم الذي ما زال يرزح تحت أنقاض الحرب.
خطوات أولى نحو الإعمار
أبرز ما خرج به الاجتماع تمثل في تعميق التنسيق بين خبرات حي القابون وبرنامج محافظة دمشق لإعادة الإعمار، عبر ترشيح ممثلين من أبناء الحي من ذوي الاختصاص ليكونوا شركاء فعليين في رسم ملامح المرحلة المقبلة، كما تقرر الإسراع في التأكد من خلو الحي من مخلفات الحرب بالتعاون مع وزارة الطوارئ ومركزها المستحدث، بهدف تأمين دخول فرق الدراسات الهندسية بأمان مع التزام المحافظة بتغطية التكاليف اللازمة.و تم الاتفاق بين المحافظة والأهالي على تفعيل مركز لتوثيق الملكيات والحقوق العقارية داخل الحي، ليكون مرجعا رسميا للأهالي الراغبين باستعادة ممتلكاتهم أو تسوية أوضاعهم القانونية، أما الخطوة الرابعة فهي البدء بإعداد المخطط التنظيمي الجديد للقابون فور الانتهاء من أعمال الكشف والتطهير، بما يتيح العودة التدريجية للسكان وفق رؤية حضرية متكاملة.

تكرار أخطاء الماضي
يرى الخبير في التخطيط العمراني وإدارة المناطق المتضررة المهندس نبيل السروجي أن المخرجات التي أعلن عنها لقاء محافظ دمشق مع أهالي حي القابون تشكل على المستوى النظري تحولا في طريقة تفكير الإدارة المحلية تجاه الأحياء المدمرة لكنها – كما يقول :لا تزال بحاجة إلى آليات واضحة للتنفيذ وضمانات قانونية تحمي حقوق السكان الأصليين من الإقصاء أو التهميش.
ويشير السروجي في حديثه لـ”الثورة” إلى أن أبرز ما يحسب للاجتماع هو إعادة الاعتبار لخبرات أبناء الحي وإشراكهم في التخطيط، معتبرا أن ترشيح ممثلين من القابون من ذوي الاختصاص ليكونوا شركاء فعليين في عملية إعادة الإعمار يمثل بداية متأخرة لكنها ضرورية، لأن إعادة الإعمار لا يمكن أن تنجح من دون معرفة دقيقة بالنسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة.
ويضيف: إذا تم تطبيق هذا البند بصدق سيعيد التوازن إلى العلاقة بين الدولة والمجتمع المحلي، ويمنع تكرار الأخطاء التي حدثت في أحياء أخرى حين تم رسم المخططات التنظيمية من مكاتب مغلقة من دون أي مشاركة من السكان، أما عن قرار الإسراع في إزالة مخلفات الحرب، فيصفه الخبير بأنه شرط أساسي للانتقال من مرحلة الطوارئ إلى مرحلة التخطيط لكنه يحذر من أن تأخر هذه الإجراءات أو تنفيذها بآليات غير شفافة قد يستخدم ذريعة لإطالة إغلاق الحي ومنع العودة.
وينوه بأن التعاون بين المحافظة ووزارة الطوارئ خطوة إيجابية إذا رافقها إشراف محايد وتوثيق علني للأعمال الميدانية لأن أي تلاعب أو تجريف غير مبرر قد ينسف الثقة التي بدأت تتشكل، ويركز المهندس السروجي على تفعيل مركز توثيق الملكيات والحقوق العقارية باعتباره النقطة المفصلية بين النية والتنفيذ، موضحا أن القيمة الحقيقية لهذا المركز لا تكمن في افتتاحه شكلياً، بل في قدرته على معالجة ملفات الأهالي المفقودة أو التالفة واستقبال شكاوى الناس بشفافية.ويتابع قائلاً: كثير من أهالي القابون فقدوا وثائقهم خلال الحرب أو النزوح وبالتالي فإن أي مشروع إعمار لا يسبقه حسم قانوني للملكية سيفتح الباب أمام نزاعات ومظالم جديدة، وفيما يخص المخطط التنظيمي الجديد يعتبر الخبير أنه العنوان الأبرز لجدية الدولة في التعامل مع الملف، وأن الحديث عن رؤية حضرية متكاملة جميل من الناحية النظرية، لكنه سيفقد معناه إذا لم يبن على احترام الهوية الاجتماعية والمكانة التاريخية للحي، فالقابون ليست مجرد قطعة أرض بل مجتمع له ذاكرة وتاريخ.ويختم السروجي تحليله بالتأكيد على أن اللقاء يمثل لحظة اختبار حقيقية للنوايا الرسمية تجاه الأحياء المدمرة، مضيفاً: الناس في القابون لا يبحثون عن تعويضات مالية ولا عن مشاريع ضخمة، بل عن حق العودة إلى بيوتهم، ولو على مراحل، وإذا استطاعت المحافظة ترجمة هذه المخرجات إلى أفعال ملموسة، فستكون القابون نموذجا لإعادة بناء الثقة قبل إعادة البناء العمراني.

ليست أرضا عقارية بل حكاية عمر
ومن داخل القاعة التي جمعت المحافظ بعدد من أبناء القابون يصف أحمد شرباتي من أهالي الحي بأن هذه المخرجات وعلى الرغم من انها لاتزال على الورق، إلا أن اللقاء منح الأهالي بارقة أمل حقيقية بعد سنوات طويلة من الانتظار بين الوعود والتصريحات، في وقت باتت فيه الذاكرة أقوى من الواقع والحنين أقسى من الغياب، مضيفاً: ربما هدمت الجدران لكننا لم نغادر القابون في قلوبنا وما زلنا ننتظر لحظة الرجوع مهما طال الزمن.
سميح البدوي قال: نريد فقط أن نعود إلى بيوتنا ولا نطلب سوى أن يسمح لنا بترميم ما تهدم بأيدينا، فالقابون ليست أرضا عقارية بل حكاية عمر، فيما أكد ربيع أقبيق أن تفعيل مركز التوثيق خطوة ضرورية حتى لا تضيع حقوق الناس بين المكاتب، كون الكثير من أهالي الحي يخشون ضياع ملكياتهم بسبب الأوراق المفقودة والقوانين المعقدة التي رافقت مرحلة ما بعد الحرب.
وعبر كثيرون ممن التقتهم الثورة من أهالي حي القابون عن خشيتهم من أن تتحول مشاريع إعادة الإعمار إلى بوابة استثمارية تقصي السكان الأصليين، مؤكدين تمسكهم بخيط الأمل الأخير على أمل أن تكون هذه اللقاءات بداية حقيقية لعودة طال انتظارها.
عاش الحرب بكل فصولها
يصف حي القابون، الواقع شمال شرق العاصمة، كان يوماً رمزاً للحيوية والصناعة والطبقة العاملة الدمشقية، اشتهر بمصانعه الصغيرة وورشاته، لكن منذ عام 2012، تغيّر كل شيء ليتحول سريعا إلى واحدة من أكثر مناطق دمشق تدميراً.
لم يكن ما جرى في القابون مجرد معارك عسكرية، بل كان – كما يصفه كثيرون من أبنائه – سياسة ممنهجة للعقاب الجماعي والطمس العمراني، نفذها نظام بشار الأسد البائد بحق أحياء كانت شاهدة على الحراك الشعبي في بدايات الثورة السورية، وتحت أنقاض القابون طمرت آلاف القصص: عائلات أبيدت بالكامل وشباب فقدوا بيوتهم وأحياء أُفرغت من سكانها قسراً.
الصور التي خرجت من الحي آنذاك كانت كفيلة بأن تخلد القابون كأحد أكثر الشواهد إيلاماً على دمار العاصمة، شوارع تحولت إلى أطلال ومدارس بلا أسوار ومآذن مائلة نحو الخراب كأنها تشهد على زمن من القهر والنسيان.
وحتى بعد توقف صوت المدافع، استمر الصمت الرسمي في العهد البائد بمحو ما تبقى من معالم الحي عبر قرارات هدم وتجريف لم تبق حجراً على حجر لتكتمل مأساة المكان بين أنقاضه.