لم تستطع الاحتفالات المهرجانية بمئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى أن تخفي الهواجس والمخاوف من شبح المواجهة، التي تحيط بالعلاقات الدولية على وقع سياسة أميركية، يكاد الغرب والشرق يجمعان على حتمية المواجهة معها، سواء كان بحكم الأمر الواقع أم اقتضت الضرورة السياسية ذلك، وسط خيارات تبدو محرجة للجميع وتجزم بالعجز المطلق في التغلب على المتاعب والمصاعب التي تسببها سياسة ترامب.
فالمشهد أمام قوس النصر الباريسي لم يكن قادراً على إلغاء الانطباع العام أن ويلات الحرب العالمية الأولى، التي تُستحضر صورها بعد مئة عام، لم تحل دون وصول العالم إلى حافة الهاوية أكثر من مرة، ولن تحول دون تكرار المشهد مرة جديدة في ظل الرعب، الذي أعادت فرضه ممارسات الإدارة الأميركية، حيث الابتسامات الخجولة وكلمات المجاملات الباردة منها والساخنة، كانت عاجزة عن حجب الهواجس التي تشغل بال الجميع، وسط عاصفة من التكهنات بأن العالم مقبل على سباق تسلح يلوح في الأفق، وعلى أزمات متفجرة في أنحاء من العالم على نحو يتجاوز الإرهاصات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ويتفوق بهذا القدر أو ذاك على مؤشرات الحرب العالمية الثانية.
الأخطر أن الدروس التي تتغنى بها المنظومة الغربية يبدو أنها باتت للاستهلاك الإعلامي والدعاية الدبلوماسية أكثر منها للأخذ بما تركته من عبر، وسط نزوع واضح لإيقاظ الأطماع بلبوس لا يستبعد من فرضياته العودة إلى الإرث الاستعماري بوجوهه وإرهاصاته الجديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما استجد من وسائل إضافية، فتحت الشهية على البحث عن الأدوار الضائعة وسط متاهة الحسابات والمعادلات التي أفضت إلى ذوبان الدور الأوروبي، وتآكل بقاياه بحكم ما يفيض من مظاهر الهيمنة الأميركية التي انتجت دوراً أوروبياً يستنسخ الظل الأميركي بأبشع صوره، ويفقد أوروبا لونها وشكلها ومقارباتها التي كانت تشكل الكتلة الصلبة في المعادلات الدولية، فتحولت إلى مجرد تابع يكتفي بأداء الأدوار القذرة للسياسة الأميركية .
وجاءت المناسبة الباريسية لتؤكد ما كان محسوماً بالنسبة للكثيرين، حيث الحشد الفرنسي ومحاولة خطف الأضواء لم يجديا نفعاً، لأن المخاوف التي كانت تطفو على السطح تحولت إلى يقين لدى الأغلبية العظمى من دول العالم، فالهموم والمتاعب وحتى المخاوف كانت في آخر لائحة الاهتمام، بينما انشغلت العاصمة الفرنسية بملاحقة ومتابعة التفاصيل المتعلقة بتسجيل النقاط في الشكل، وخرج المضمون من دائرة الضوء وبقي في الأروقة الجانبية أو في الزوايا المهملة.
في المحصلة.. يبدو أن المحظور ربما تجاوز حدود المسموح في تجاهل القضايا الأكثر إشكالية والأشد سخونة والتي تهدد العلاقات الدولية، حيث شبح الذكرى المئوية يطل مثقلاً بالإرهاصات التي لا تكتفي بالتذكير بمواجع الحروب العالمية الأولى والثانية، بل تشكل قصفاً تمهيدياً للثالثة، فالتهور الذي يصبغ بعض الممارسات والاستفاضة في استخدام فائض القوة لا بد أن يعيد العالم إلى حافة الهاوية، وربما إلى أبعد من حافتها..!!
a.ka667@yahoo.com
علي قاسم
الافتتاحية
التاريخ: الثلاثاء 13-11-2018
الرقم: 16835