الثورة- نور جوخدار
خلال العقدين الماضيين، أخذت الصين توسع خارطة نفوذها في القارة السمراء، عن طريق التغلغل في القرن الإفريقي الذي يشكل البوابة الرئيسية لعبور تجارتها إلى أوروبا، حتى باتت تتبوأ مكانة مهمة كقوة عظمى تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع التوسعات الجيوسياسية، وهذا يأتي ضمن رؤية بكين الاستراتيجية في مبادرة “الحزام والطريق” التي أُطلقتها عام 2013 بهدف ربط طرق التجارة العالمية عبر آسيا وإفريقيا وأوروبا.
النفوذ الصيني المتنامي في القارة الإفريقية لا يقتصر فقط على المشاريع التنموية والاستثمارات في الموانئ، بل يتعداه إلى التوسع العسكري مثل القاعدة العسكرية الصينية الأولى التي أنشأتها في ميناء دوراليه في جيبوتي وميناء مومباسا في كينيا، أحد أهم الموانئ في شرق إفريقيا، والذي تم تطويره وربطه بسكة حديد جديدة بدعم وتمويل صيني، كما أنها بصدد بناء قاعدة بحرية أخرى في غينيا الاستوائية، ووفقًا لمعهد سياسات جمعية آسيا (ASPI)، فإن الصين تسعى إلى “تسليح” مبادرة الحزام والطريق، عبر إلزام الموانئ التجارية التي تستثمر فيها بأن تكون قادرة على العمل كقواعد بحرية.
وبحسب آخر الدراسات الصادرة عن مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية- التابع لوزارة الدفاع الأميركية- أن الشركات الصينية تسيطر على أكثر من ثلث مراكز التجارة البحرية في القارة، وتشرف حاليًا على 231 ميناء قائم، فيما تقدر الشركات الصينية النشطة في البناء والتمويل والتشغيل بـ 78 ميناءً في 32 دولة أفريقية، حيث تتمركز النسبة الأكبر في غرب إفريقيا بـ35 ميناء، تليها 17 ميناء على السواحل الشرقية، و15 ميناء في الجنوبية، و11 ميناء في الشمالية، وللمقارنة، تضم أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي 10 موانئ تديرها الصين، بينما تضم آسيا 24 ميناء صينياً.
وتتحدث الخطة الخمسية لمبادرة الحزام والطريق (2021-2025) عن رغبة تحويل الصين إلى “دولة بحرية قوية”، كجزء من عملية تجديد أوسع لنطاقها باعتبارها “قوة عظمى” ذات نفوذ استراتيجي عالمي في إطار تطوير طريق الحرير الجديد، تخطط بكين لربط ستة ممرات وستة طرق تجارية جديدة تمر ثلاثة منها عبر افريقيا، وتهبط في شرقها في كينيا وتنزانيا ومصر ومنطقة السويس وتونس.
قائد البحرية السابق في جيش التحرير الشعبي الصيني وو شنغلي يشير إلى أن الموانئ التي تسميها الصين “نقاط استراتيجية قوية في الخارج”، تعد منصات لبناء وجود متكامل للصين، سواء لأغراض اقتصادية أو عسكرية، وهذا يعكس استراتيجية بكين الدقيقة في تطوير وإدارة الموانئ الإفريقية بما يخدم مصالحها الجيوسياسية والبحرية على المدى الطويل.
التمدد الصيني المتسارع في القارة يثير قلق واشنطن التي تعتبره تحديا مباشراً لنفوذها، لا سيما في حديقتها الخلفية أمريكا اللاتينية، والتي أصبحت فيها الشريك التجاري الأول لأميركا الجنوبية، وثاني أكبر شريك لأميركا اللاتينية ككل، والتي تضم بحسب دائرة المعارف البريطانية دول أميركا الجنوبية والمكسيك وجزر البحر الكاريبي وأميركا الوسطى.
وتنامى التواجد الصيني في إفريقيا مقابل تراجع اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالقارة في عهد الرئيس السابق جو بايدن، الذي لم يزرها إلا مرة واحدة، ومن المتوقع أن تتغير السياسة الأميركية تجاه إفريقيا بعد عودة ترامب للحكم، والذي بدأ بالفعل بتقويض النفوذ الصيني في العالم بفرض رسوم جمركية مشددة كوسيلة لمواجهة القوة البحرية العالمية التي تتمتع به.
وفي الختام يمكن القول: إن الصين استطاعت بامتلاكها لأكبر الموانئ حول العالم، أن تفرض هيمنتها على التجارة البحرية، في وقت تراجع فيه الدور الفرنسي والأوروبي، بينما تحاول روسيا تأمين موطئ قدم لها في البحر الأبيض المتوسط قرب حدود حلف شمال الأطلسي، وبالتالي تبقى المنافسة بين القوى العظمى مستعرة، ومعها يبقى السؤال مفتوحاً: ما هو مستقبل إفريقيا وسط هذا التنافس الدولي المحموم؟.
