منذ قيام الجمهورية التركية المعاصرة، وهي تبحث كما كانت الدولة العثمانية قبلها، عن إهدار دماء القوميات الأخرى داخل أراضيها وخارجها لتقيم دولة التصادم ما بين قومية وأخرى، ولتكون الطورانية هي القومية التي تسلب القوميات الأخرى أبسط حقوقِها بدءاً من القصيدة والثقافة حتى لقمةِ الخبز.
والدولة التركية، التي زاوجت بين براغماتية النظام العالمي الجديد وتقاليد القبيلة الثأرية، وُضِعتْ في ورطة، ففي تركيا تعيش قوميات مختلفة، وهؤلاء النسيج المختلف لن يقبلوا -كما يقولون دائماً في أدبياتهم السياسية- بأن يكونوا حطب الكماليّة وبوسعهم أن يأخذوا شكل حطب الثورة الدائمة والمستمرة في وجه النظام القائم.
وقد باتت تركيا دولة أُسقِطتْ هويّتُها، فلم تذهب غرباً عبر تقاليد الأتاتوركية ولاحقاً عبر نظامها الأردوغاني وعقليتهما القمعية، ولم تذهب شرقاً عبر عداوتها مع شعوب المنطقة.
إن النخبة التركية الحاكمة، ومن ضمنها طبقة العسكرتاريا، مشدودة إلى أوربا، ساعيةً إلى أن تكون جزءاً منها، وسواء قوبلت هذه الرغبة بالموافقة أو الرفض فإن ما يهمنا هو أن هذه النخبة برغبتها الانسلاخية عن المنطقة بحضارتها قد تناست أن هناك جزءاً مهمّاً داخل الحدود السياسية لتركيا، يرفض أن ينتسب إلا إلى أرضه التي اندمج فيها منذ القدم، وهو ضرورة تمتد في أحشاء المنطقة، وثقافته جزء لا يتجزأ من تلك الثقافة، لذلك فلتَسْلَخْ تركيا ما تشاء ولتتوجه إلى أوربا، أما الشعوب الأخرى فباقية ضمن المنطقة وحضارتها.
ويعلم الجميعُ أنه لا توجد قوة في العالم تستطيع إخماد روح المقاومة لدى من يسعى لنيل حقوقه، وعلى الرغم من التحذيرات الصادرة من المجتمع الدولي، وبرغم كل التصرفات الخاطئة لنظام أردوغان فإن غروره وعنصريته ومحاولته إرضاء الشارع اليميني المتطرف، يدفع بحكومته إلى السير بعكس اتجاه الحوار مع مكونات الشعب التركي، ناهيك عن دعمه للإرهاب والفصائل الإرهابية وتدخله في شؤون دول الجوار كما يجري مع سورية والعراق.
ورغم أن الجميع يعلم أن الحرب لا تؤدي إلا إلى مزيد من الويلات، وأن الحاجة إلى السلام أكبر مما يمكن تصوره، فإن نظام أردوغان يسير باتجاه معاكس وبالتالي هو من يتحمل وزر إرهابه وسياساتها الخاطئة واتجاهاتها العنفية.
أخيراً يبدو أن نظام أردوغان لا يدرك أيضاً أن المناطق التي احتلها ليست حدائق للتنزه فمقاومة الدول والشعوب ستجبره على الرحيل كما هو الحال في الشمال والجزيرة السوريين، كما وأن عليه البحث عن منافذ أخرى لحل مشاكله الداخلية وإحساسه بالضعف أمام تلك المشاكل وتقلص دوره وفشله في التخلص من قيوده التي تكبّله من ملفّ الأرمن، إلى المسألة الكردية، إلى المسألة القبرصية، وانتهاءً بحقوق الإنسان التي تجاوزته، وعليه حسمُ خياراته في العديد من الملفات الشائكة والعالقة لديه.
الثورة – مكتب الحسكة – ج . خ