الثورة – دمشق – ميساء العلي:
يبدو أن هناك آلية جديدة للتعاطي مع الموازنة العامة للدولة تنطلق من تعزيز وزيادة الإنتاج الوطني والاعتماد على الذات، والاستفادة المثلى من الموارد الوطنية، لاسيما في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة..
فتركيز الموازنة العامة للدولة للعام القادم على إعادة النظر بمشاريع بعض الوزارات بشكل واقعي، بالتوازي مع الحرص على كفاءة الإنفاق الاستثماري في المشاريع ذات الأولوية الهدف الأول للموازنة العامة للدولة لعام 2025.
منذ أيام قليلة صدرت الاعتمادات الأولية لموازنة العام القادم وفق رؤية تهدف إلى إصلاح الاختلالات الهيكلية في الموازنة العامة وتطوير النسبة التي ستخصص للإنفاق الاستثماري مع طمأنة وزير المالية بأنه لدينا خطة طموحة لتعزيز الإيرادات، ولا يوجد تخطيط لفرض ضريبة جديدة وأنه لدينا إيرادات جارية ستساهم بنسبة كبيرة بتمويل الإنفاق العام للدولة خلال الفترة القادمة.
إذا لا مشكلة بمسألة تأمين الإيرادات على حد تعبير وزير المالية فإن الكتلة المالية للموازنة العامة للدولة لعام 2025 والتي تبلغ كمؤشرات أولية 52600 مليار ليرة سيتم تأمينها ببساطة.
فضلية: زيادة اسمية وليست حقيقية
يقول أستاذ التحليل الاقتصادي بكلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور عابد فضلية تعليقاً على الأرقام التي وردت بعد اجتماع المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي حول المؤشرات الأولية لموازنة العام القادم “من الجيد أنه تم رفع الموازنة للعام القادم بنسبة 48% في هذه الظروف الداخلية والخارجية الصعبة والمعقدة، علماً أن هذه الزيادة هي ومعظمها زيادة اسمية وليست حقيقية بسبب التضخم .. ويخشى من استمرار ارتفاع نسبة التضخم في العام القادم فتتآكل هذه الزيادة.
ويتابع في حديث خاص ل”الثورة” حول بنود وتوزيعات أموال الموازنة فهي (وكما الأمور في الموازنات الأخرى) غامضة من حيث طبيعتها ومن حيث إمكانية لحظ وقياس وجدية وحقيقة إنفاقها مثل (المعونة الاجتماعية) و(صندوق التخفيف من آثار الجفاف)، ولاسيما رصد مبلغ 2700مليار لدعم الأدوية.. الخ
ويضيف أنه وعلى الرغم من أن مبلغ الإنفاق الاستثماري المرصود هو مبلغ جيد نسبياً ونسبة نموه عالية بالمقارنة مع العام الماضي إلا أن نسبة إنفاقه غير مؤكدة ولا مضمونة، وحتى لو تم ذلك عملياً، فلا توجد مؤشرات على حسن التنفيذ ولا على المردودية الاقتصادية والاجتماعية للمشاريع الاستثمارية التي يصب فيها.
وحول الإنفاق الجاري يقول فضلية “ليس أقل أهمية من الإنفاق الاستثماري باعتبار أنه يتضمن شراءً لمواد استهلاكية من السوق الداخلية، والمبلغ المرصود له جيد، إلا أن معظمه مخصص للرواتب والأجور (سواء بمستواها الحالي أم فيما إذا تقرر زيادتها)، وبالتالي وبسبب التضخم وارتفاع الأسعار؛ فإن الجزء المتبقي من مبلغ الإنفاق الجاري لا يشكل سوى قدرة شرائية داخلية محدودة بالمقارنة مع حجم السوق.
وبحسب فضلية- فإنه ليس بالإمكان أكثر مما كان وزيادة مبالغ الموازنة أمر إيجابي (نسبيا) مقارنة مع مصاعب الوضع الحقيقي على الأرض، الأمر الذي يعني ازدياد ضرورة المزيد من التدخل الاقتصادي التنموي والاستثماري من قبل القطاع الخاص وضرورة رفع مستوى التشاركية بين القطاعين العام والخاص.
عياش: مرهونة بالحفاظ على استقرار سعر الصرف
من جانبه الخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش وفي حديثه لـ”الثورة” يقول: من المعروف أن الموازنة العامة للدولة هي الخطة المالية للحكومة والتي تتضمن تقدير الإيرادات والنفقات المتوقعة خلال عام والفرق بينهما يعبر عنه بالعجز إذا كانت النفقات تفوق الإيرادات المقدرة.
لكن بحسب عياش ما يعنينا هو مقدار هذا العجز من جهة وكيفية معالجة هذا العجز من جهة ثانية.
وفي التحليل الأعمق للموازنة يمكن التعرف على مصادر الإيرادات المتوقعة، وكيفية توظيفها الاستثماري والجاري والذي يشكل الإنفاق العام وهو المعيار الذي يعول عليه في تحقيق التنمية.
كما وتتضمن الموازنة بنداً ذا دلالات هامة للمجتمع يتعلق بالاعتمادات المخصصة للدعم الاجتماعي، لأنه يعبر عن توجهات الحكومة تجاه الدعم وطرق توزيعه.
عياش قدم قراءة أولية ومبسطة حول موازنة 2025 فمن باب الواقعية والموضوعية، لم يكن أمام الحكومة الجديدة الوقت الكافي لتقوم بإعداد مشروع الموازنة وفق رؤيتها بالإضافة إلى أنها محكومة بالموارد المحدودة المتاحة.
وأضاف: لقد اعتمدت الحكومة الجديدة على منهجية تقويمية تنموية مغايرة للمنهجية السابقة أساسها الواقعية من خلال تحسين إدارة العجز، فيما هو متاح من موارد لتحقيق عدالة اجتماعية أكبر استناداً إلى فكر تنموي تظهر ملامحه من خلال مشروع الموازنة وفق المؤشرات التالية، أولها: التوسع في الإنفاق الاستثماري بزيادة اسمية قدرها 48% عن موازنة 2024 (21% فعلياً). بينما اعتمدت الحكومات السابقة على تقليص الإنفاق الاستثماري حيث يشكل الإنفاق الاستثماري في موازنة 2025 قرابة 30% مقارنة بقرابة 25% في موازنة 2024، وهذا مؤشر إيجابي لدعم الإنتاج وزيادته ودعم المشاريع الاستثمارية ولاسيما المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
وثانياً: اعتبار الإنفاق الجاري محركا للاستهلاك والطلب وليس مجرد إنفاق سلبي غير منتج حيث يشكل الإنفاق الجاري 70% من الإنفاق العام بينما كان يشكل 75% في موازنة 2024، مؤشر الإنفاق الجاري يرتبط بالرواتب الأجور والخدمات المختلفة التي تقدمها الحكومة للمجتمع.
ومما تقدم يجد الخبير الاقتصادي توجها واضحا للحكومة لزيادة فعالية الإنفاق العام، ولكن يجب الانتباه إلى أن ذلك مرهون بقدرة الحكومة على الحفاظ على استقرار سعر الصرف وكذلك معدلات التضخم، فاعتماد سعر الصرف الرسمي الحالي 13500 ليرة وفي حال حافظ على استقراره، يساعد في تحقيق المشاريع الاستثمارية بواقعية.
ويضيف أن التوسع بالإنفاق العام يوافقه كذلك التوسع بالإنفاق الخاص حيث تعتبر الحكومة أن القطاع الخاص شريك موثوق،(كان يساهم القطاع الخاص بقرابة 70%من الناتج الإجمالي المحلي قبل الأزمة) ولكن مع ضرورة العمل على زيادة مساهمته في القيمة المضافة الاجتماعية أي في تحقيق التنمية، مما يقتضي معالجة صحيحة لاقتصاد الظل، وتطبيق الأتمتة والفوترة والشفافية الضريبية وإعادة النظر في التسعير الإداري.
كما يرى وفق تلك الأرقام الأولية أنه تم تصحيح أحد المفاهيم المغلوطة المتعلقة بالتخطيط حيث تم اعتبار التخطيط حاجة وضرورة، وذات أهمية مضاعفة في ظروف عدم اليقين وهذا يساعد الحكومة في الانتقال من العمل الجزئي والآني كردود أفعال مع غياب التنسيق أو ضعفه أي يساعد في تجاوز سياسات الترقيع، ويساهم في زيادة التنسيق القطاعي من جهة وكذلك يساعد على تبني السياسات القطاعية المتكاملة. وقد تجلى ذلك بديناميكية الخطة من خلال سيناريوهات عدم الاستقرار باعتماد 4300 مليار ليرة للاحتياطيات الاستثمارية.
واللافت بحسب عياش هو حوكمة الدعم الحكومي بأشكاله المختلفة، ففي الواقع تم تخفيض قيمة الدعم الاجتماعي الإجمالي كنسبة من إجمالي الموازنة ليشكل قرابة 15% مقابل 17% عام 2024 مع أنه تمت زيادته كقيمة اسمية عن عام 2024 بنسبة تقارب 25%، من قرابة 6.2 تريليون إلى قرابة 8.3 تريليون ليرة كما لم تتضمن موازنة 2025 أي تخطيط لفرض ضرائب جديدة، كما أنها لا توحي بزيادة في أسعار السلع والخدمات الحكومية وبالتالي هذا مؤشر جيد حيث سيتم الاعتماد على زيادة وفاعلية الإنفاق العام والخاص وكذلك الاستثمار الأمثل لأملاك الدولة بما يضمن حسن إدارتها وتعزيز إيراداتها وهذا ما سيساعد في تخفيض عجز الموازنة بقرابة 21% عن 2024، من خلال زيادة الإنفاق العام وليس التمويل بالعجز.
في العموم وكقراءة أولية وسريعة أن مشروع موازنة 2025 هو مشروع تحكمه الإمكانات المتاحة اعتماداً على الواقعية والفاعلية في إدارة العجز َيبقي التحدي الأكبر لنجاحه هو القدرة على معالجة الركود بالإنتاج لضبط التضخم ولاسيما في التكاليف.
علي: لأول مرة دعم للدواء
بالمقابل يرى الخبير المصرفي والمالي الدكتور علي محمد في حديثه للثورة أن الاعتمادات الأولية لموازنة العام 2025 ارتفعت بنسبة 48% من 35500 مليار ليرة الى52600 مليار ليرة، ويلاحظ أنها ارتفعت أيضا عند تقديرها بسعر الصرف الرسمي، فقد كانت نحو 3.1 مليارات دولار عام 2024 بسعر صرف 11500، وأضحت3.9 مليارات دولار بسعر صرف13500، والزيادة تقريبا بنسبة 25% أما اذا قمنا بمقارنة موازنة العام 2025 بموازنة العام 2023 البالغة 5.5 مليارات دولار حيث كان سعر الصرف آنذاك عند إقرار الموازنة حوالي 3000 ليرة، فهي منخفضة بحوالي 30%.
وهنا تجدر الإشارة أن التقويم بالعملات الأجنبية هو مجرد مؤشر لحجم الموازنة بعملة ثابتة ولا يعني مطلقاً أن نفقات وإيرادات الحكومة هي بالقطع الأجنبي، حيث نعلم أنها في جلها بالليرة السورية.
وبالنسبة لتبويبات اعتمادات الموازنة العامة كإنفاق جاري واستثماري، فهناك ارتفاع من26500 مليار ليرة في العام 2024 إلى 37000 مليار ليرة في العام 2025 للإنفاق الجاري اي بنسبة 40%، وكذلك نلاحظ ارتفاعها عند تقويمها بالعملة الأجنبية من 2.3 مليار دولار إلى 2.7 مليار دولار أي ما نسبته 17%.
في حين بلغ حجم الدعم الاجتماعي 8325 مليار ليرة مرتفعاً من 6210 ملياراً في موازنة العام 2024 و4927 مليارا في موازنة 2023، أي ارتفاع بنسبة 34% بين عامي 2024 و2025، وبقي مرتفعا أيضاً عند تقويمه بالعملة الأجنبية بواقع 14% حيث بلغ 0.62 مليار دولار عام 2025 بينما 0.54مليار عام 2024.
وبالنسبة للعجز في موازنة العام 2025 بحسب علي ” لا يمكن تقديره نتيجة عدم القدرة على معرفة حجم الإيرادات المتوقعة وعدم الإفصاح عنها، لحين إقرار الموازنة كقانون، لكن وزير المالية صرح بأن العجز هو بنسبة 21% من إجمالي اعتمادات الموازنة، ما يعني أن العجز قد يبلغ 11050 مليار ليرة، فيما كان العجز في موازنة العام 2024 حوالي 9230 مليار ليرة سورية تشكل نسبه 26% من موازنة العام 2024، وان عدنا إلى موازنة العام 2023 كان العجز نحو 4860 مليار ليرة بما يشكل نسبه 29% من اعتمادات موازنة العام 2023، وبنظرة سريعة نكتشف أن نسبة العجز من إجمالي الموازنة في العام 2025 هي الأقل ما بين العامين 2024 و2023″ .
مما سبق يقودنا إلى أن الإيرادات المقدرة في العام 2025 تبلغ نحو 41550 مليار ليرة سورية وبحسب تصريح السيد وزير المالية فإن هذه الإيرادات ستكون بشكل أساسي من الضرائب المعمول بها حالياً، إضافة إلى تحسين الإيرادات من خلال تعزيز العائد على إدارة أملاك الدولة، وعند مقارنة هذه الإيرادات مع إيرادات العام 2024، نرى أن إيرادات العام 2024 كانت بنحو 26270 مليار ليرة سورية، وهذا يعني أن إيرادات العام 2025 مرتفعة بنحو 58% عن إيرادات العام 2024، أي بقيمه 15.280مليار ليرة، وأعتقد أن هذا رقم مهم جدا إن تحقق‘ فيعني تعزيزا للإيرادات العامة للخزينة.
ويرى أن بعض بنود الدعم الاجتماعي بقيت على حالها مثل 50 ملياراً للمعونة الاجتماعية، فيما ارتفع دعم الإنتاج الزراعي من 75 مليارا إلى 100 مليار، وكذلك ارتفع دعم الري الحديث من 50 مليارا إلى 150 مليارا، اما دعم الخميرة فقد كان في موازنة 2023 نحو 103 مليارات وأضحى 125 مليارا، أما دعم مناطق متضررة من الزلزال فقد انخفض من 75 مليار ليرة إلى 25 مليار ليرة وذلك نتيجة القيام بسداد جزء هام من التعويضات للأسر المتضررة، أما دعم آثار الجفاف ارتفع من 7 إلى 25 مليار ليرة.
كما نلاحظ بحسب الخبير أن بند الدقيق التمويني في 2025 بقيمة 350 مليار ليرة، فيما لا معلومات عن حجمه في العام 2024، بينما كان 1500 في موازنة العام 2023، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى ارتفاع سعر شراء القمح المسلم من الفلاحين إلى المؤسسة السورية للحبوب للموسم الحالي إلى 5500 ليرة للكغ، إضافة إلى زيادة بعض التعويضات المتعلقة بالمطاحن والأفران وغيرها، كذلك زيادة مصاريف المستلزمات السلعية والخدمية سواء المشتقات النفطية اللازمة للعمل او قطع الغيار ومواد التعبئة والتغليف والصيانة، وكذلك ارتفاع أجور الطحن ونقل القمح.
ليختم كلامه بالقول “نلاحظ في موازنة العام 2025 فرصة دعم للأدوية بقيمة 2700 مليار ليره سورية، فيما لم تكن موجودة في الأعوام السابقة”.
هذا وقد تطورت ونمت أرقام الاعتمادات بنسبة 48%، وكان التقسيم لهذه الاعتمادات خلال الفترة الماضية (في موازنة عام 2024) 75% منها موجه للإنفاق الجاري و25% للإنفاق الاستثماري، أما في مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2025 تم توجيه 30% من الإنفاق العام للإنفاق استثماري، بمعنى تم توجيه حصة أعلى لإنفاق يزيد من مستوى الإنتاج في الاقتصاد السوري.. لإنفاق ذي قيمة مضافة يمكن أن يساهم بنسبة كبيرة بتعزيز معدلات التنمية الاقتصادية في حين بلغ الإنفاق على الأغراض الجارية ما نسبته 70%.
في حين أن العجز في الموازنة هو أحد أهم المؤشرات ضمن الموازنة العامة للدولة للعام 2025، حيث تم تخفيض نسبة العجز إلى 21%، علماً أنها كانت في الموازنة العامة للدولة لعام 2024 بنسبة 26%، الآن العجز المقدر لعام 2025 هو 21% وهذا التخفيض مفيد لأنه عبارة عن حالة صحية يعزز من معدلات أو وتائر النمو في الاقتصاد.
أخيراً.. والكلام لنا يعتقد البعض أن الموازنة العامة للدولة هي هدف بحد ذاته لكنها من وجهة نظر علمية أداة للتنمية والتخطيط وليس مجرد إيرادات ونفقات، ولابد أن يكون إعداد الموازنة العامة للدولة للعام مختلفاً بحيث يمكن للمواطن البسيط أن يتلمس أثرها على حياته من خلال زيادة الإنفاق على بعض البنود، ذات الأبعاد الاجتماعية، كالرواتب والأجور والصحة والتعليم .