ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
دأبت الأدبيات السياسية في نهاية القرن الماضي وبدايات العقد الأول من الحالي على الابتعاد عن الخوض في مسألة الوعي العربي الذي تشكل على وقع هزائم سياسية مدوية، كانت غايتها تشكيل نماذج مكرورة من تلك الهزائم التي تنسحب على واقع ذرائعي مشبع بالرغبة في تجميل الواقع من منظور سياسي،
لا تخفي الأجندات التي تقف خلفه نفسها، والجوهر فيها يقوم على بنية أيديولوجية ذات صبغة تبريرية، بحيث تكرس واقع الهزيمة بما يتماشى مع المنظور العام للأحداث تصعب معه إعادة التفكير بمقومات القوة، والتسليم بعوامل الضعف.
وبدأت حالة التيئيس قائمة على عوامل ذاتية لا تخفي الدوافع السياسية عنها، لكنها لا تحتمل في الوقت ذاته النقاش الموضوعي، وترافقت بمجموعة من المسلمات الدالة على الهزيمة وعدم جدوى الممانعة والمقاومة، والتي تحولت إلى مصطلح لاذع يتم التعاطي معه من باب التندر السياسي، شكلت من خلالها مفاهيم ذات صبغة عمومية تعتمد أذرع السياسة والإعلام والدبلوماسية والقوة الناعمة، لتصبح ذات بعد أيديولوجي طبع مسألة الوعي العربي بمفهوم خاص، حيث الهزيمة ليست فقط من الآخر، بل تأخذ مفاهيمها من محددات ذاتية.
وأضحت المقاربة الفعلية تقوم على أساس المفهوم التبريري للهزائم، وأن القدرات والإمكانات لم تعد تسمح بأبعد من التسليم بالهزيمة لتكون على مقاس الوضع العربي وتشظياته المختلفة، فتكون واحداً من عوامل الإقرار بالهزيمة في مواجهة العدو الإسرائيلي حين غابت صفة العداء.. وحاولت تمرير سبل البحث عن الأجندات المشتركة، وإن جاء أغلبها بطابع تطبيعي مع العمل الحثيث على تسويق فكرة إلغاء العداء بحكم الأمر الواقع الذي باتت فيه إسرائيل خارج سياق المفهوم العدائي تحت عناوين تيئيسية منسقة مسبقاً.
الانعطاف بدأ منذ البدايات الأولى للقرن الحالي عندما اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من جنوب لبنان، ولم تستطع أيديولوجيا التطبيع أن تنزع مفاهيم الهزيمة عن إسرائيل، وتم استيعاب الجزء الأكبر منها بخطة بديلة تمثلت بغزو العراق وسحبه مباشرة من موازين الصراع القائم وتحييد قدرات الجيش العراقي من الحسابات الافتراضية للمواجهة العسكرية المحتملة، فيما أعادت حرب 2006 التوازن إلى قواعد الاشتباك، حيث كانت إسرائيل في حالة عجز سياسي وعسكري استعصت على المفاهيم الغربية قدرة تسويقها، وبدت أمام هزيمة تجسدت في تحطيم أولى أساطير إسرائيل والتي تمثلت آنذاك في الميركافا التي كانت تعتبر فخر الصناعات الحربية الإسرائيلية.
غير أن حالة التيئيس اشتغلت على محاور عدة، تبدلت فيها الاستهدافات بقصد استيعاب الصدمة الناتجة عن تآكل القوة العسكرية الإسرائيلية، ومحاولة تجريف ما راكمته المقاومة ومعها سورية من صدقية وقدرة على إعادة تشكيل الوعي العربي في لحظة فارقة تاريخياً، وجاءت الأحداث المأساوية في البلدان العربية لتأخذ معها آخر بقايا الحالة القائمة واستنزاف ما تراكم من إنجازات نوعية من خلال التجييش السياسي والإعلامي، والبناء على سياسة إيجاد الأعداء الافتراضيين وتحويلهم إلى واقع عملي، وتحييد إسرائيل من موقع العدو وصولاً إلى تسويق التطبيع السياسي على أنه نوع من الحل وأحياناً صيغة من صيغ الاستعانة به لحمايتهم من العدو الافتراضي الآخر.
اللحظة الفارقة تشكلت في الرد السوري وإسقاط طائرة إسرائيلية تمثل الجيل المتطور والقوة الضاربة في سلاح الجو الإسرائيلي، وأفضت إلى تآكل أسطورة التفوق الجوي وانكشاف الخاصرة الرخوة الإسرائيلية والتي كانت آخر ما في الجعبة من عوامل حماية، وهذا ما شكل الانعطاف الأساسي والدفاع الفعلي لإعادة تشكيل الوعي العربي من بوابة الإدراك بأن هناك حاجة لمراجعة بدت قسرية في بعض مفازاتها المباشرة، ومارست دور الصدمة الإيجابية لإيقاظ الوعي بصيغة حاضرة في الوجدان العربي، كانت أولى إرهاصاتها الفعلية نعي النظام الرسمي العربي ومنظومة العمل العربي بصيغتها الرسمية، حيث أعادت تصويب هذا الوعي باتجاه أن إسرائيل كانت وستبقى هي العدو الأساسي في عودة مبكرة إلى المربع الأول.
التداعيات المباشرة في واقع الوعي العربي استحضرتها جملة محفزات بنيوية تمثلت في خروج الوعي الشعبي من بوتقة وحلقة الدوران الفارغ، حيث كان أول تجلياته الواقعية تصب نحو الإدراك الحسي والمعرفي مقترناً بالأدلة والقرائن على أن مواجهة إسرائيل وعدوانية المنظومة الغربية وتهالك المنظومة المالية الخليجية ليست مستحيلة، فكان انكسار أولي لجدار الوهم وتشكلت على حطامه مقولات تستعيد الوجود الفعلي لمنظومة المقاومة، والتي أخذت على عاتقها إعادة تشكيل الوعي العربي ثلاثة محددات أساسية أولها إسرائيل كانت وستبقى العدو، وثانيها انهيار ستار الأكاذيب الملحقة بمقولة المواجهة مع إسرائيل، وثالثها إعادة تشكيل الوعي العربي على أسس تحاكي منظومة المقاومة وحضورها، والتي تشكل التحول الكبير الذي نحتاج البناء عليه لاحقاً، ويصلح ليكون العنوان القادم للمواجهة بمعطيات وأسس قادرة على كنس ما علق بالذهنية العربية على مدى عقدين ونيف من الزمن.
a.ka667@yahoo.com