الدولرة تبتلع السوق.. والورقة الجديدة أمام اختبار الزمن السلوم لـ”الثورة”: حدث اقتصادي وسياسي بامتياز
الثورة – جاك وهبه:
في لحظة فارقة من تاريخ سوريا، تعود الليرة إلى صدارة النقاش العام مع تسريبات إعلامية عن نية الحكومة إصدار أوراق نقدية جديدة، مطبوعة في روسيا عبر شركة “غوزناك”، تتضمن حذف صفرين من القيمة الاسمية، وإزاحة صور الأسد المخلوع عن المشهد المالي للمرة الأولى منذ عقود.
هذه الخطوة التي يُتوقع الإعلان عنها رسميا في كانون الأول المقبل تثير جدلاً واسعاً: هل هي محاولة جدية لإنعاش الاقتصاد المتعثر أم مجرد ورقة سياسية تحمل رمزية القطيعة مع الماضي؟
في هذا السياق، أكد الخبير الاقتصادي محمد السلوم في حديث خاص لصحيفة الثورة، أن القضية أبعد بكثير من مجرد تغيير شكلي في الأوراق النقدية، وبين أن الإصدار الجديد لا يمكن التعامل معه كعملية فنية بحتة، بل هو انعكاس لصراع اقتصادي وسياسي في آن واحد، وأضاف: “إزاحة صور “بشار وحافظ الأسد” من على العملة، رسالة سياسية واضحة تعلن القطيعة مع الماضي، لكنها تضع الحكومة أمام تحدٍ أكبر، فهل تكفي الرمزية لإقناع الأسواق والمواطنين أن الليرة استعادت قيمتها ودورها؟”
وبيّن السلوم أن الجانب الرمزي والسياسي مهم لكنه غير كافٍ، مشدداً على أن العملة الجديدة ستخوض اختباراً حقيقياً في بيئة اقتصادية مضطربة، إذ الدولرة باتت واقعاً يومياً، والقوة الشرائية للمواطنين تآكلت إلى حد غير مسبوق.
وعن اختيار “غوزناك” الروسية لطباعة الأوراق الجديدة، أوضح السلوم أن القرار لم يكن مصادفة، قائلاً: “الشركة الروسية تملك خبرة ممتدة منذ القرن التاسع عشر، وتُعتبر من كبار اللاعبين عالمياً إلى جانب شركات أوروبية مثل ’دي لا رو‘ و’غيزيكه أوند ديفريِنت‘، مضيفاً ان التوجه نحو روسيا يعكس أيضاً بعدا سياسيا، إذ أن الحكومة السورية اختارت حليفا موثوقا سياسيا قبل أن تختار مطبعة نقدية”.
وحول الكلفة الاقتصادية، بين أن طباعة الورقة عبر “غوزناك” تتراوح بين 7 و12 سنتا، مقابل 9 إلى 18 سنتا لدى الشركات الغربية، وأضاف: “قد يبدو الفرق ضئيلاً، لكنه يعني عشرات الملايين من الدولارات عند الحديث عن مليارات الأوراق، ومع ذلك، فإن انخفاض الكلفة لا يلغي تحديات أخرى مثل النقل وسط العقوبات وصعوبة الاستفادة من تقنيات أمنية متطورة غربية”.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن الثقة المفقودة تبقى المعضلة الكبرى، موضحاً أن الاقتصاد السوري اليوم غارق في الدولرة، وأن نحو 40 تريليون ليرة متداولة خارج النظام المصرفي، وهو ما يمثل تحدياً خطيراً، مؤكداً أن الحكومة تراهن على الإصدار الجديد للسيطرة على السوق وضبط الكتلة النقدية، لكنه حذر قائلاً: “ورقة نقدية جديدة لا تكفي وحدها لتحويل اقتصاد هش إلى اقتصاد مستقر ومنتج، الإصلاحات البنيوية العميقة هي الشرط الأساسي”.
ولفت السلوم إلى ان إطلاق العملة الجديدة في كانون الأول سيكون حدثا اقتصاديا وسياسيا بامتياز، لكنه لن يكون نهاية القصة، والسؤال الجوهري يبقى: هل ستعيد هذه الأوراق الثقة بالليرة، أم أنها ستتحول إلى فصل جديد من الصراع بين الرمزية السياسية والواقع الاقتصادي القاسي؟
وفي هذا الإطار، شدّد السلوم على أن التحديات لا تتعلق فقط بشكل الأوراق أو قيمتها الاسمية، بل بالمخاطر التقنية والمؤسسية الكامنة وراء مثل هذا القرار، وقال: “حذف الأصفار من العملة ليس عملية حسابية بسيطة، بل مسار مركب يحتاج إلى استعداد مالي وتشريعي وتقني، والتجارب العالمية تُظهر أنه قد ينجح في إعادة الانضباط النقدي كما قد ينتهي إلى مزيد من الفوضى”.
وأوضح أن البنوك المركزية حول العالم تعرف أن كل صفر يُحذف يعني تعقيداً إضافياً، وقال: “الأنظمة البنكية والبرمجيات يجب أن تُعاد برمجتها بالكامل لتتلاءم مع العملة الجديدة، وإلا وقع ارتباك في الحسابات والديون، و ان العقود التجارية والالتزامات طويلة الأمد تحتاج إلى إعادة تفسير قانوني، كما أن أنظمة الدفع الإلكترونية وأجهزة الصراف الآلي تمر بمرحلة دقيقة من إعادة التهيئة، حتى الموازنات الحكومية والجداول الضريبية ينبغي إعادة معايرتها، فهذه ليست تفاصيل تقنية فحسب، بل مخاطر اقتصادية فعلية إذا لم تُدر بدقة”.
وأشار السلوم إلى أن التجارب الدولية تقدم صورة واضحة للتحديات المحتملة: “تركيا عام 2005 تُعتبر تجربة ناجحة نسبياً، حيث حذفت ستة أصفار لكن في إطار إصلاح اقتصادي شامل وبنية مؤسسية جاهزة، ما جعل الانتقال سلساً نسبياً، وفي المقابل، واجهت البرازيل في التسعينيات ارتباكاً قانونياً ومحاسبياً بعد حذف ثلاثة أصفار، بينما تحولت التجربة الفنزويلية عام 2018 إلى فوضى بعد حذف خمسة أصفار من دون إصلاح اقتصادي حقيقي، ما أدى إلى انهيار الثقة بالعملة الجديدة منذ لحظة ولادتها، وبدورها التجربة الزيمبابوية مثّلت المثال الأوضح على الفشل، حيث لم تنجح أي محاولة لإعادة تقييم العملة أمام التضخم المفرط”.
وأضاف السلوم: إن تحديد فترة زمنية لسحب العملة القديمة يُعدّ عنصراً أساسياً في نجاح العملية: “سنة واحدة تُعتبر فترة مثالية وفق المعايير العالمية، إذ تمنح المؤسسات المالية وقتاً كافياً لتحديث أنظمتها، وتتيح للمواطنين والتجار التكيف مع القيم الجديدة، فتركيا التزمت بمدة عام واحد ونجحت، فينا أدت الفترات الأقصر في البرازيل وفنزويلا إلى ارتباك واسع، وفي الحالة السورية، قد تكون سنة كاملة ليست مجرد خيار مثالي، بل ضرورة نظراً لضعف البنية التحتية المالية وتفاوت سرعة وصول العملة الجديدة إلى مختلف المناطق”.
وحول قرار الحكومة الاكتفاء بحذف صفرين فقط، أوضح السلوم “هذه ليست مسألة عشوائية، فكلما زاد عدد الأصفار المحذوفة، ارتفع التعقيد المؤسسي والنفسي، فحذف ثلاثة أصفار يعني إعادة صياغة أشمل لكل الرواتب والعقود والقروض، ما قد يربك السوق ويزيد من مخاطر سوء الفهم، إذ أن المعايير الدولية تشير إلى أن حذف الأصفار يجب أن يوازن بين سهولة التعامل النقدي من جهة، وقدرة النظام المالي والمؤسساتي على التكيف من جهة أخرى، في هذا السياق، يبدو خيار حذف صفرين أقرب إلى الواقعية والحد من الارتباك، حتى لو كان أقل جاذبية رمزياً”.
واختتم السلوم بالقول: “العملة الجديدة ليست مجرد ورقة تزين الجيوب، بل اختبار حقيقي لقدرة المؤسسات السورية على إدارة عملية تقنية وقانونية ونفسية معقدة، فتجارب الدول الأخرى تقول إن حذف الأصفار قد يكون بداية لإعادة الثقة إذا ترافق مع إصلاحات اقتصادية أعمق، وقد يتحول إلى خطوة فارغة إن لم تُدعم بسياسات إنتاجية وشفافية مالية، ويبقى السؤال المفتوح: هل تكون الليرة الجديدة بداية تحول فعلي، أم مجرد تغيير شكلي يطيل عمر الأزمة؟”.
يمكن القول: إن خطوة إصدار أوراق نقدية جديدة تحمل في جوهرها بعدين متوازيين، سياسي ورمزي من جهة، وتقني واقتصادي من جهة أخرى، فعلى الصعيد الرمزي، فإن إزاحة صور “آل الأسد” البائد من التداول تمثل تحولاً في الخطاب الرسمي ورغبة في الإيحاء بفتح صفحة مختلفة، بينما على الصعيد الاقتصادي تُطرح المسألة بوصفها محاولة لإدارة التضخم والكتلة النقدية وإعادة بناء الثقة بالعملة.
غير أن مثل هذه الخطوات النقدية لا يمكن الحكم عليها سلفاً بالنجاح أو الفشل، فهي تتوقف على مجموعة عوامل متشابكة، أبرزها طريقة التنفيذ، والإجراءات المرافقة لها، واستجابة السوق والمجتمع، فالتجارب العالمية تظهر أن حذف الأصفار أو تغيير شكل العملة قد يساهم في تحسين انسيابية التداول وتخفيف العبء الحسابي، لكنه لا يعالج تلقائياً جذور الأزمة الاقتصادية أو يعيد الثقة المفقودة.
إلى جانب ذلك، يبرز العامل السياسي كعنصر لا يقل أهمية عن الجانب الاقتصادي، إذ إن اختيار شركة روسية للطباعة يعكس تحالفات استراتيجية، لكنه في الوقت ذاته قد يفتح الباب لتأويلات حول حجم الاستقلالية الاقتصادية وحدودها، وبالتالي فإن الورقة النقدية الجديدة ليست مجرد أداة مالية، بل مرآة تعكس موازين القوى السياسية والاقتصادية في آن واحد.
في النهاية، يمكن النظر إلى هذه الخطوة كمرحلة انتقالية ستخضع لاختبار الزمن والسوق معاً، فالمواطنون، كما التجار والمستثمرين، هم من سيحددون عملياً قيمة هذه الأوراق الجديدة ومدى قدرتها على الصمود، وهنا تكمن المفارقة فنجاح التجربة لا يرتبط فقط بقرار الإصدار، بل بما ستتبعه الحكومة من سياسات اقتصادية واقعية، وبمدى تفاعل المجتمع مع هذه الرمزية الجديدة.