الثورة – رفاه الدروبي:
لانزال نذكر الآثاري خالد الأسعد عندما كنا نتوجَّه لزيارة عمل إلى تدمر، ما إن نقصد باب المتحف حتى يخرج من غرفته ليبادلنا التحية، ويتبعها بكلماته القليلة: “كل شيء عن تدمر تحتويه غرفتي الصغيرة ذات بضع الأمتار”.
مرَّت عشر سنوات على رحيل عالِم الآثار السوري خالد الأسعد الذي كان يشغل منصب مدير آثار، ومتحف تدمر، بين عامي ١٩٦٣-٢٠٠٣، عمل الراحل مع عدة بعثات أثرية أميركية، فرنسية، ألمانية، إيطالية وغيرها خلال سنوات عمله الطويلة، كما نال عِدة أوسمة محلية وأجنبية، وكان يتحدث لغات أجنبية عدة، إضافة إلى إتقانه اللغة الآرامية لغة سوريا الطبيعية قبل آلاف السنين، وخطت يمينه نحو 40 مؤلفاً عن الآثار في تدمر وسوريا والعالم، بعد أن خاب أمل تنظيم “داعش” في جعله يعترف بمكان الكنوز الثمينة المخبَّأة بعد أن أنقذها من متحف تدمر، إذ طلبوا منه قبل إعدامه الجلوس، لكنَّه بقي واقفاً يردِّد كلماته الأخيرة أثناء قطع رأسه، إذ قال: “نخيل تدمر لاينحني”.
رمزاً للتراث الثقافي
“الثورة” التقت بنجله محمد الأسعد فأفادنا.. إنَّ طفولة والده ونشأته كانت في بيئة ريفية في قلب الواحة الخصبة وبين المعالم الأثرية، ما ترك تأثيراً كبيراً في إدراكه لقيمة الانتماء للأمة ودوراً عظيماً في تاريخ الإنسانية، وعلى الرغم من أنَّ علم الآثار كان مجالاً جديداً نسبياً في سوريا آنذاك، إلا أنَّه كان شغوفاً ومهتماً جداً بفهم آثارها منذ صغره، وبحصوله على شهادة التاريخ من جامعة دمشق في ستينات القرن الماضي، ما أهله لاستلام منصب رئيس دائرة الحفريات في المديرية العامة للآثار والمتاحف في وزارة الثقافة عام ١٩٦٣، وأصبح أميناً للمتحف الجديد في تدمر، ومديراً لموقعها الأثري لأكثر من خمسة عقود.
وعلى الرغم من الظروف والصعوبات والتحديات، إلا أنَّه عمل بتفانٍ كبير مع زملائه وفريق عمله، لجعل تدمر رمزاً للتراث الثقافي فعندما انتهت مدته القانونية للتقاعد مُدِّد له خدمة خمس سنوات، وتلاها عقد خبرة بمدة أخرى بشكل نظامي، ولم يفارق العمل أبداً، لكن من دون توقيع بعد استلام إدارة المتحف للدكتور خليل الحريري، ومدير الآثار نجله وليد خالد الأسعد، وبدوره تعرَّض للاعتقال الداعشي لمدة سبعة أيام، وهرب بعدها إلى فرنسا، وأصبح غير قادر على الحركة من شدة التعذيب الجسدي والنفسي، ولم يعد لمرضه علاج رغم تلقيه الرعاية الصحية لتجاوزه مرحلة العلاج والتشافي نتيجة ضغط عصب العمود الفقري على العصب المنبه لأوامر الدماغ لحركة الأقدام.
ويبقى الأب صامداً في وجههم دفاعاً عن تدمر، مدينته وشغفه الأبدي، وعن تراثها الإنساني الفريد، حيث دفع دمه ثمناً لمنعهم من الوصول إلى كنوزها المخفية ونهبها.
مواظبته على العمل
وأفاد الأسعد عن والده، أنَّه كان دائماً مواظباً على العمل مع بدء ساعات العمل في الصباح، كي يقدم المعلومة للزوار والسائحين إلى المدينة عن الآثار التدمرية، وكأنَّهم يحاكون الأثر ويجيبهم، وكثيراً مازلت قدمه أثناء حفريات التنقيب الأثري، ووقع بين الركام، فتركت آثار الجروح ندبات على جسده رغم اندمالها لكنَّه اعتبرها أكبر الأوسمة، لم يفهمها كثير من الناس بأنَّ الاستفادة كانت قليلة من نظام لا يعرف معنى القيمة الأثرية.
نال خالد الأسعد أوسمة الاستحقاق بدرجة فارس من تونس وبدرجة ضابط من الرئيس الفرنسي “فرنسوا ميتران” بدرجة ضابط ومن بولونيا لكنه اعتبر أكبر الأوسمة عمله لمدة ٤٠ عاماً ما أنجزه في التنقيب والترميم والدراسات والمنشورات برفقة زملائه والباقية بمئات السنين.
مبيِّناً الأسعد أنَّ كل ما عمله الراحل لم تدفع الرئيس المخلوع “بشار الأسد” للدخول إلى المتحف قط أو محاولة زيارته ولو لمرة واحدة أثناء تواجده في تدمر بل توجَّه في أغلب زياراته للهو واللعب بالفنادق مكان إقامته، والتجول وركوب الدراجة الهوائية في الشارع المحاذي للبساتين، وحتى أثناء زيارة الملك الإسباني إلى تدمر عام ٢٠٠٣ اصطحبه لزيارة قلعة تدمر لمشاهد بانورامية للمدينة من دون الدخول إلى المتحف” وفقاً للأسعد.
وأوضح أنَّ تدمر تتوفر فيها كل مقومات الحضارة الإنسانية الطبيعية لأنَّها مدينة أثرية متكاملة قلَّ نظيرها في العالم لتدل على شعب متطور متحضر بنى القصور والمعابد والمدافن والمسرح لتبادل الثقافات وأنشأ السوق العام “الآغور” المحتوي على القانون المالي التدمري عام ١٣٧م والتبادل التجاري والمناطق الحرة منذ ٢٠٠٠ عام، وكانت تدمر نقطة التقاء تجار القوافل لدول العالم عبر طريق الحرير، أمَّا عن فيلم “دم النخيل” للمخرج نجدت أنزور فأكَّد على أنَّه لم يكن العمل بالمستوى المطلوب للحقيقة، وإبراز حدث كبير يتضمن اغتيال عالم الآثار السوري خالد الأسعد لكنَّه أنجز فكرة جاهزة قدَّمها النظام آنذاك.
خاتماً حديثه..
إنَّ الفتح الإسلامي عندما تقدم إلى بلاد الشام ومدينة تدمر لم يكسر خالد بن الوليد الأصنام الموجودة، أو يهدم معبد “بل”، وإنما بقي صامداً مدة ١٤٠٠ عام، ولم يصاب بأذى، وليثبت التاريخ أنَّ من دمره أعداء التراث السوري.