الثورة – جهاد اصطيف:
بعد سنوات من المعاناة الصامتة مع الأدخنة المتصاعدة، تنفس أهالي منطقة عين العبيد في ريف جرابلس، شمال حلب الصعداء مع إعلان إدارة المنطقة وقف نشاط ما يعرف بـ”الحرّاقات”، خطوة وصفت بأنها انتصار للبيئة وصحة السكان، وجاءت استجابة مباشرة لعشرات الشكاوى التي رفعها المواطنون.
معاناة يومية
للتعمق في جذور المشكلة، لا بدّ من العودة إلى سنوات الحرب والأزمة الاقتصادية، فمع تراجع إمدادات الوقود النظامي وارتفاع أسعار المحروقات بشكل جنوني، وجد السكان أنفسهم أمام مأزق الطاقة والمعيشة.. فالمزارع كان بحاجة إلى مازوت لتشغيل مضخة الري، ورب الأسرة كان بحاجة إلى وقود للتدفئة في الشتاء الطويل، وأصحاب المركبات اضطروا للبحث عن بدائل رخيصة تمكنهم من التنقل.
في ظل هذا العجز، ظهرت فكرة “الحرّاقات” كحل شعبي بديل يتم التعامل معه بأساليب بدائية، تحرق فيها مخلفات نفطية بطريقة عشوائية لا تخضع لأي معايير أمان أو بيئة.
ولم تكن “الحرّاقات” مجرد نشاط صناعي بدائي، بل مصدر تهديد حقيقي لصحة المئات من العائلات في محيطها، فالأدخنة السوداء الكثيفة التي تغطي سماء القرية تسببت بحالات متزايدة من الربو وضيق التنفس والسعال المزمن، وخاصة بين الأطفال وكبار السن.
يقول عدد من سكان المنطقة: كنا نغلق النوافذ والأبواب طوال اليوم، لكن الدخان كان يتسرب إلى البيوت، أكثر من مرة أسعفنا أطفالنا بسبب الاختناق، وتوقف هذه “الحراقات”، يعيد لنا الطمأنينة.
الضحية المنسية
غالباً ما يركز الحديث عن “الحرّاقات” على الدخان الذي يغطي السماء، لكن الأثر الأعمق والأخطر كان على التربة الزراعية، فمخلفات الحرق وزيوت المحروقات الثقيلة تسربت بشكل مباشر إلى الأراضي المحيطة، تاركة خلفها طبقة زيتية سوداء عازلة تمنع امتصاص المياه والهواء.
وأوضح عدد من مزارعي المنطقة أنهم في البداية لم ينتبهوا، لكن مع مرور المواسم بدأت بعض الأراضي تفقد خصوبتها، ويقولون: كنا نزرع القمح أو الشعير، فنجد أن الإنبات ضعيف والتربة تحولت إلى كتلة صلبة، الخسارة لم تكن فقط في المحصول، بل في مستقبل الأرض نفسها.
حسن عبد الغفور مهندس زراعي أكد أن استمرار هذه الممارسات يؤدي إلى تصحر بطيء، إذ تفقد التربة عناصرها الحيوية وتتحول إلى أرض غير صالحة للزراعة.
كما أن السموم المتسربة تصل تدريجياً إلى المياه الجوفية، ما يهدد سلامة الآبار التي يعتمد عليها الأهالي للشرب والري.
مفارقة مريرة
تعتمد “الحراقات” على أسلوب بدائي لحرق المشتقات النفطية واستخراج مواد مثل المازوت كما قلنا، ما يجعلها وسيلة ربح اقتصادي محدود لعدد من العاملين، لكنّها في المقابل تخلف خسائر صحية وبيئية مضاعفة.
أطباء أمراض صدرية، أوضحوا أن الأدخنة الناتجة عن “الحراقات” تحتوي على جزيئات سامة ومعادن ثقيلة، تؤثر مباشرة على الرئتين وتزيد من مخاطر أمراض مزمنة.
مضيفين: الملاحظ هنا ارتفاع حالات التهاب الشعب الهوائية والربو بين الأطفال خلال السنوات الماضية، والسبب المباشر هو التلوث الناتج عن هذه الأنشطة.
من يتحمل المسؤولية؟
قانونياً، يؤكد المحامي حسام حميدي أن تشغيل “الحراقات” يعتبر مخالفاً للمعايير البيئية والصحية، لكن ظروف الحرب وغياب المؤسسات الرقابية، جعلا هذه الأنشطة تنتشر من دون محاسبة، اليوم، مع عودة الإدارة المحلية للعمل، يطرح السؤال : هل ستتم محاسبة أصحاب “الحرّاقات” عن الأضرار السابقة، أم الاكتفاء بوقفها فقط؟
ويرى أن الحل لا يكمن في العقوبات وحدها، بل في دمج العاملين السابقين في مشاريع بديلة، حتى لا يعاودوا النشاط سرّاً.
إدارة منطقة جرابلس أكدت في بيانها أن القرار جاء بعد دراسة ميدانية وشكاوى الأهالي، مشددة على أنها تضع صحة المواطن فوق أي اعتبار.
كما أكدت حرصها على متابعة القضايا التي تمس حياة المواطنين اليومية، والبحث عن بدائل اقتصادية آمنة من دون الإضرار بالبيئة أو بصحة السكان.
أمل ببيئة أنظف
لا شك أنه في شوارع عين العبيد، يسود اليوم شعور عام بالارتياح، والأهالي يرون في القرار خطوة أولى على طريق طويل لتحسين الواقع الخدمي والمعيشي.
رهف. ا، أم لخمسة أطفال، تقول : كنا نعيش تحت غيمة سوداء كل يوم، الآن نتمنى أن يعود الهواء نقياً كما كان، وأن يهتم المسؤولون أكثر بمشكلاتنا اليومية.
قرار إيقاف “الحراقات” في عين العبيد ليس مجرد إجراء إداري، بل هو رسالة استجابة لمطالب الناس، وتأكيد على أن الصحة العامة والبيئة ليست ترفاً بل أولوية، وفيما يرحب الأهالي بهذه الخطوة، تبقى التحديات قائمة في إيجاد حلول بديلة مستدامة توازن بين حق السكان في بيئة سليمة وحق العاملين في تأمين رزقهم.