ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير علي قاسم:
قد لا تصلح المقارنة بين منتدى فالداي ومؤتمر ميونيخ للأمن للإحاطة بالتشعبات والاختلافات القائمة، وإن فرضت نفسها بحكم التزامن في التوقيت والتشارك في الكثير من الملفات التي حضرت، وإن اختلفت العناوين وبدت من خلالها المقاربات بعيدة بهذا القدر أو ذاك،
بحكم الصياغات السياسية المختلفة ووجهات النظر المتباينة تبعاً لآلية التسويق السياسي والإعلامي، والاهتمامات المتعددة المستويات التي تحكم كلا الموقعين، خصوصاً أن التاريخ يقف حائلاً دون تلك المقارنة في كثير من الأحيان.
ومع ذلك كان من الصعب تجاهل الحدثين نظراً للطبيعة المتقاربة في الطرح وإن اختلفت إلى حد التناقض، حيث ميونيخ كان سباقاً في إيقاظ الهواجس والمخاوف والتبعات السياسية وارتداداتها من كل حدب وصوب، عندما طغت لغة الحرب الغربية وأذرعها الإقليمية على طروحاته من دون منازع، فيما كان فالداي يجاهد في سبيل إيجاد مقاربة بعيدة عن تلك اللغة المستشرية في الخطاب الغربي، وقدّم قراءة سياسية يمكن أن يُستدل منها على بعض الضوء -ولو كان خافتاً- في نهاية نفق مارست خلاله السياسات الغربية أقصى درجات الهيمنة، وبالغت في التخفي خلف الأجندات السياسية وأطماع دولها، ومحاولاتها استلاب الشعوب والدول على حد سواء.
الفارق السياسي القائم في الطرح ليس وليد المكان ولا التاريخ، بقدر ما هو نتاج منظومة حاولت أن تكون المعيار والمقياس في إنتاج مشكلات ومعضلات تقود في النهاية إلى محاولة فرض أجنداتها على الواقع العالمي ومشهد العلاقات الدولية، حيث الفشل لم يكن ملازماً فحسب، بل كان سباقاً إلى النبش في تراكمات ماضية وحاضرة، فالسياسة الغربية شاهد على تفاقم وتأزم هذه العلاقات، وكانت مداولات ميونيخ تنحو باتجاه «تبشير» مسبق بنماذج الحروب التي تسعى إليها المنظومة الغربية، وهي أقرب إلى قرع طبولها، من الحديث عن التعاون وإمكانية الحوار والسعي الحقيقي لحل المشكلات الأكثر أستعصاءً في تاريخ هذه العلاقات.
وبالمقابل لا نستطيع أن نجزم بأن فالداي كان قادراً على إعادة طرح رؤيته من دون الأخذ بالعناوين الكبيرة التي تتصدر الخطاب الغربي، وكان لزاماً عليه التأثر بما تطرحه مقاربات غربية بالغت في تقمص لغة الحرب ومعادلاتها وخطاب الصراع ومستلزماته، وأقصى ما حققه في الواقع أنه قدم بدائل حقيقية باللغة وبالخطاب لنماذج محددة من السياسات تحاكي مشهداً مغايراً للفهم الغربي ومنظومته، وأحضر معه قرائن على فهم آخر مختلف للسياسات «بنموذجها الروسي» في محاكاة واقعية منظمة لفهم أدوار القوى الكبرى على مسرح الأحداث، باعتبار أن ما اصطلح على تسميته بالشرق الأوسط نموذج لهذه السياسات.
بين الفعل وردة الفعل كانت تحضر مشاهد المقارنة بين ميونيخ وفالداي دون تقصّد أو تعمّد، وإنما بحكم الأمر الواقع الذي شهد ذروة الحضور السياسي لمقاربات فاعلة يمكن أن ترسم إلى حد بعيد الفروق الجوهرية بين سياسات غربية تحاكي أطماعها، وسياسات قوى يغلب عليها طابع التعاطي من منظور الشرق، الذي يسهب في تبنيه والتزامه لمبدأ العلاقات الدولية والأخذ بمصالح الشعوب وحفاظه على مبدأ سيادة الدول، التي تشكل منهجاً وعقيدة يمكن الاتكاء عليها لقراءة المشهد بتبايناته السياسية المختلفة، من دون أن تغيب عنها الإشارات الواضحة من المخاوف والهواجس التي تثيرها السياسات الأميركية على المنطقة.
وكان لافتاً أن يتحول ميونيخ إلى منصة شهدت هذا الكَمّ من الردح السياسي الذي تناوبت على سرده منظومة غربية وأدوات وتوابع سياسية، وكانت تتعمد تقديم خطابات متخمة بعدائيتها وتحريضها وكذبها وافترائها على الحقيقة الواحدة بوجوه متعددة كانت كفيلة وحدها ومن دون تدخل أن تفرض معيارها على جلسات ميونيخ باعتباره أصبح منبراً للإعلان عن عدد الحروب المحتملة، في حين كان عاجزاً عن تقديم مقاربة واحدة لحلول ممكنة ومتاحة، بحيث كان مستحيلاً الوصول إلى تفاهمات قريبة أو بعيدة بخصوص المعضلات التي تواجه العالم ومن بينها تصفية الإرهاب، والصياغات المتناقضة التي أحالتها أميركا لمجرد رمزية تتكئ عليها في حروبها المفترضة لاحقاً.
الجدران العالية التي انتصبت سياسياً بين الغرب والشرق كانت تحضر شواهد الصياغات المستمدة من الحرب الباردة، وبدا من السابق لأوانه الاعتراف بالانخراط في متاهتها، لكنه لم يلغِ حقيقتها، ولا الإحساس بزيادة وجودها، ودورها في الضغط السياسي، حيث المنازلة المؤجلة بدأت سياسياً، والطريق الموصل إليها لم يعد خارج التداول، وكان ميونيخ شاهد إثبات على ذلك الحضور.
على الضفة الأخرى كان منتدى فالداي يرسم صياغات من أرض الواقع، وإن أخذت التحذيرات من مخاطر السياسة الأميركية واللعب بالنار قسطاً كبيراً من مساحته، وفرضت إيقاعها بشكل لم يكن متاحاً تجاوزه، لكنه في الوقت ذاته أفسح في المجال أمام قراءات أخرى تصلح لأن تكون بوابات مفتوحة للنقاش تسهّل الطريق وتخفّف من حدة ما راكمته السياسات الغربية، وتقلل من عدد الجدران التي انتصبت، ولو افتراضياً حتى إشعار آخر، فلكل ملتقى قصة يرويها بطريقته وأسلوبه… مع إضافات نوعية واضحة كانت بمنزلة محددات تمكن فالداي من فرضها -ولو نظرياً- بشقها السياسي.
a.ka667@yahoo.com