الملحق الثقافي:د. سلمى جميل حداد:
الترجمة هي عملية نقل من لغة النص الأصلي إلى لغة النص الهدف. والمترجم هو وسيط بين طرفين مشاركين في عملية الاتصال يؤدي دوراً مزدوجاً، فهو من جهة متلق للنص الأصلي ومن جهة أخرى مرسل للنص الهدف. إن هذا التعريف المفرط في بساطته وعموميته لمفهوم الترجمة ولأدوار المشاركين في عمليتي الإنتاج وإعادة الإنتاج قد يوقع قارئ هذه السطور بوهم مفاده أن الترجمة هي مجرد عملية نقل بين نظامين لغويين، وبالتالي فإن إتقان المترجم للغتين المنقول منها وإليها يكفي لأن يصنع منه مترجماً بارعاً. هذا الاعتقاد الخاطئ دفع بالكثيرين في أنحاء العالم إلى حقل الترجمة حيث قدموا نصوصاً مترجمة لم تتمكن من التحرر من سلطة النص الأصلي واللغة المنقول منها تحت شعارات الدقة والأمانة/ الخيانة.
وإذا سلّمنا بأن مفهوم الدقة والأمانة/ الخيانة يختلف من نوعية نص إلى أخرى، فلا بد لنا من النظر إلى الترجمة كعملية ترويض للنص الأصلي تتناسب طرداً مع درجة التصاقه بثقافة اللغة المصدر، إذ كلما ازداد النص الأصلي قرباً من ثقافة اللغة المصدر، كلما تغير مفهوم الدقة والأمانة/ الخيانة بالنسبة إلى المترجم. وبالتالي فإن ترجمة تقرير إخباري، على سبيل المثال، تتطلب درجة عالية من الأمانة بمفهومها التقليدي، أي ترجمة حرفية، فيما تتطلب ترجمة قصيدة شعر درجة عالية من الأمانة بمفهومها المعاصر، أي ترجمة خلاقة تحكمها ضوابط عملية تحرير النص الهدف من سلطة اللغة المصدر ومن أبعادها الثقافية، وبعبارة أخرى ترويض النص الأصلي للدخول في نظام لغوي وثقافي مختلف. ولما كانت الترجمة حواراً بين ثقافتين وجسراً تفاعلياً نعبره لنصل إلى الآخر ويعبره الآخر ليصل إلينا، فالأجدر بها أن ترتقي إلى حد تساعدنا فيه على فهم أنفسنا وإدراك الآخر حتى يبلغ التفاعل الثقافي المستوى المطلوب لنجاح عملية تواصلية انسيابية بأقل ثغرات تفاعلية ممكنة.
يشتهر الشعر العربي بالغزل ويستحضر شعراؤه صوراً وثيقة الصلة بمحيطهم البيئي اليومي المباشر. فنجدهم يدرجون على تشبيه المرأة بالحيوانات الجميلة من حيث الشكل العام وطريقة المشي وخفة الحركة وجمال العينين والرقبة (الفرس، الغزال، المها، إلخ)، وبالزهور من حيث اللون والرائحة العطرة والجمال والعمر الفتي (الياسمين، الجوري، إلخ)، وبصنوف الطعام من حيث اللون والحلاوة (العسل، القشدة، إلخ)، وبمصادر النور والعتمة من حيث لون البشرة والعينين (الشمس، القمر، إلخ)، وبالنباتات من حيث القامة الممشوقة (الخيزران، البان، إلخ)، وبأدوات الحرب من حيث درجة الحب ونظرة العين (السهام، السيوف، الرماح، الخناجر، إلخ). ولئن أسرف الشعراء العرب في التغزل بالمرأة الجميلة مستخدمين أجمل الصور وأرق المعاني، فإنهم لم يرحموا المرأة القبيحة من سياط انتقاداتهم مستخدمين أقسى الصور وأشد العبارات التهكمية في هجائها. وقد وصلت بهم السخرية حد تشبيهها بالكثير مما يستقبحون في ثقافتهم من مخلوقات (القردة، البومة، الأفعى، إلخ).
في كل مجتمع ثمة رؤية ثقافية خاصة بأفراده تصوغ استخداماتهم اللغوية وتميزهم عن باقي المجتمعات وتمنحهم سمة الخصوصية، وعليه فإن فصل اللغة عن محيطها الثقافي وفصل درجة فاعلية النص عن سياقها الثقافي، ضرب من ضروب المستحيل. ولعل الأمثال الشعبية إحدى المرايا التي تعكس بجلاء الرؤية المجتمعية والقيم الثقافية والمعتقدات والأخلاقيات والعادات والتقاليد التي تحكم هذه الرؤية وتختصر سنوات طوال من التجارب اليومية التي تخوضها المجتمعات. فإذا درسنا العلاقة بين الثقافة العربية والقرد، فإننا نجد أنها علاقة إشكالية، إذ يترافق القرد في تلك الثقافة مع الكثير من الصفات التي تُطلق على الإنسان من باب المديح في بعضها والذم في معظمها كالفوضى والضجيج والشقاوة وخفة الحركة والجبن والعبث والولع بالتقليد والذكاء. لكن صفة قبح الشكل تحتل المرتبة الأولى دون منازع لتجعل منه رمزاً حقيقياً وبارزاً من رموز القبح عند العرب. فهم يلقبونه بأقبح المخلوقات، بل وكثيراً ما يستغفرون الله عندما يشبّهون أحداً ما بالقرد قائلين بشكل عفوي “أستغفر الله شكله مثل القرد”. وقد يكون القرد من أكثر الحيوانات التي تناولتها الأمثال الشعبية بإفراط في هذا الإطار: “حبيبك من تحب ولو كان قرد”، و”أخذ القرد على ماله، راح المال وبقي القرد على حاله”، و”أكثر من القرد ما مسخ الله”، و”القرد قبيح لكنه مليح”، و”فتّش القرد بدفاتره ما شاف غير شفايفه وأظافره”، إلى آخره من الأمثال المتداولة في هذا السياق والتي تسلط الضوء على تحامل العرب عليه واحتقاره.
وفي المقابل، إذا ما درسنا العلاقة بين الغزال والثقافة العربية، فإننا نجد أنه يتبوأ مكانة رفيعة في تلك الثقافة، فهو، حسب تعريفهم، حيوان صغير الحجم رشيق وجميل الشكل كثرت في جماله ورشاقته الأمثال: “رشيق كالغزال”، و”مثل الغزال خفة وحلاوة”، و”أملح من غزال”، إلى آخره من الأمثال الشعبية والاستخدامات اللغوية التي تعكس بكل وضوح نظرة العرب التقديرية له وإعجابهم بحسنه ورشاقته وتحيزهم له، بل إنهم كثيراً ما يقولون بشكل عفوي “ما شاء الله” حين يشبّهون أحداً ما بالغزال.
ولدى تناولنا الأمثال الشعبية التي تجمع بين القرد والغزال على امتداد الوطن العربي (القرد في عين أمه غزال، شاف القرد نفسه بالمرايا حسّب حالو غزال، قالوا للقرد ستُمْسخ قال قد أصبح غزالاً، سبحان من بدل غزلانهم بقرود، إلخ) نستنتج بكل بساطة أن سلّم القبح/ الجمال عند العرب هو عبارة عن خط مستقيم يبدأ بالقرد كأقبح مخلوق وينتهي بالغزال كأجمل مخلوق.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كم من الثقافات حول العالم تشترك مع العرب في تصنيفهم الجمالي وتعتمد سلّمهم المتعارف عليه بين أوساطهم؟ والسؤال الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه: كيف للمترجم أن ينقل قصيدة هجاء تعتمد على تشبيه المهجو بالقرد إلى اللغة الانجليزية، على سبيل المثال، التي تقتصر ثقافتها على تشبيه القرد بالإنسان على مستوى التصرفات والأفعال لا على صعيد الشكل الخارجي (ولد مؤذ، شخص يتصرف بطريقة مضحكة أو مؤذية، يعبث ب، يتدخل في ما لا يعنيه، يقلد غيره، إلخ)؟ وكيف له أن ينقل غزلاً شفافاً بامرأة تبدو كالغزال إلى متلق إنجليزي تستحسن ثقافته عيني الغزال لكنها لا تمنحه المرتبة الأعلى على سلم الجمال الخاص بها؟
إن معايير القبح/ الجمال وغيرها من مئات المعايير الأخرى ليست عالمية بل تخضع لمفاهيم محلية لصيقة الصلة بالثقافات، مما يجعل الحاجة ملحة لرفد المعاجم المتوفرة حالياً والتي تُعنى بمعاني المفردات بمعاجم تسلط الضوء على البعد الثقافي للغات، وتمكّن المترجم من تطويع ما يعصى فهمه على متلقي النص الهدف الذي يتكلم لغة أخرى وينتمي إلى منظومة ثقافية مختلفة.
وفي جميع الأحوال، يبقى الهدف من الترجمة أحد أهم العوامل التي تحدد مساحة حرية المترجم وتضبط مفاهيم ترجمية كثيرة كالتكافؤ والأمانة والخيانة.
التاريخ: الثلاثاء7-7-2020
رقم العدد :1004