كي نحقق الاكتفاء الذاتي ونكسب القمح والمياه معاً

أ‌. د. عبد الله المجيدل  
تعدُّ دراسة تاريخ مشكلة ما والإحاطة بتخومها جزءاً أساسياً من البحث المنهجي في معالجتها، فقد أرست الطبيعة أسس بناء نظامها الدقيق منذ القدم، وتحقيق توازن العلاقة بين مكوناتها، في حين عمل الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض بطريقة تنافي حقيقة وصفه جزءاً من هذه الطبيعة، فكلما ازداد علماً وفتح آفاقاً معرفية جديدة، ازداد شراسة في خرق أنظمتها، وتدمير بنيتها الحساسة مدفوعاً بجشع استهلاك مواردها، ضارباً بعرض الحائط بمبادئ التنمية المستدامة.

وهذا ما دفعني للعودة إلى تلك الأيام التي حققنا فيها الاكتفاء من إنتاج القمح وصدرناه لسنوات، دون أن ننتبه إلى أننا وقعنا في مشكلة أخرى، ولاسيما في منطقة الجزيرة، فبدلاً من اتخاذ الإجراءات للحد من تأثير التغيرات المناخية العالمية وقعنا في مطبات الجفاف، حيث كانت همة مسؤولي الزراعة آنذاك عالية في تطوير زراعة القمح، دون البحث في الخطط والأساليب العلمية في تنفيذها.
فالتخطيط يعمل حساباً دقيقاً لمجمل المدخلات مع التحديد الزمني، وهذا التحديد لا يُحسب ولا يُقدر اعتباطاً، وإنما يجري وفق الأساليب العلمية تمييزاً للتخطيط عن غيره من الوسائل غير العلمية، إذ إن التخطيط لا يكون مجرد عملية إعداد مجموعة من القرارات العقلانية بشأن المستقبل دون تنفيذ ومتابعة، فالتنفيذ والمتابعة يعدان اختباراً للقرارات على أرض الواقع وما يترتب على هذا الاختبار من كشف لمزيد من الحقائق والأخطاء والتي تشكل تغذية راجعة feedback للخطة فيُعاد النظر فيها، وقد تخضع للتعديل ومن هنا يكون مبدأ المرونة في الخطة بتعديل أولوياتها وبدائلها في أثناء التقويم المرحلي للخطة.
سأتحدث اليوم ليس بوصفي أستاذاً جامعياً ولا بوصفي خبيراً في المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة “أكساد” “ACSAD” بل بصفتي مزارعاً، وعلى مبدأ المثل الروسي القائل: “أسمع رأي المجرب قبل المتخصص” فلسنا بحاجة لنظرية أبي‌ ريحان‌ البيروني‌ّ في‌ “الهيدروستاتيك” التي تشرح ضغط‌ السوائل‌ وتوازنها، وارتفاع‌ مياه‌ الينابيع‌ والفوّارات‌، إذ عرفنا بالتجربة والمعايشة بأن كثافة الآبار الارتوازية تعمل على خفض مستوى المياه الجوفية، ما يدفعنا لملاحقة المياه باستطالات نضيفها لمواسير المضخات في كل عام تقريباً.
ولكن المشكلة التي لم يحسب حسابها المعنيون في شؤون الزراعة آنذاك أنه عندما بدأنا بفلاحة البادية، والتوسع بحفر الآبار الارتوازية، وذلك من خلال منح القروض الميسرة لحفرها وبالعمق الذي يخطر ببال المزارع، دونما تخطيط ودراسة لأحواض المياه الجوفية، إذ حُفرت عشرات الآلاف من الآبار الارتوازية، ولاسيما في منطقة رأس العين على الحوض المغذي لنهر الخابور، أدى كل هذا إلى إحداث ثقوب لاحصر لها في الصخرة الأم الحاملة لحوض مياه النبع الأساسي، وهذا أدى بدوره لتسرب المياه لطبقات ما تحت الصخرة الحاملة من جهة ومن جهة أخرى انخفاض الضغط اللازم لتدفق المياه كما كان في السابق، أما القروض الزراعية وما رافقها من تلاعب وتواطؤ في الحصول عليها، وما نتج عن ذلك فهذه حكاية أخرى، فماذا كانت النتائج بعد سنوات قليلة.
أولاً: جفاف نهر الخابور الذي كان عصب الحياة لقرون خلت على ضفافه، والخابور من أنهار الجزيرة السورية، فهو النهر الرئيس في الشمال الشرقي من سورية، ويعد من أهم روافد نهر الفرات، وهو أحد الرافدين اليساريين للفرات “الخابور والبليخ”، ويكاد يشكل منطقة اتصال بين الجزيرة السورية العليا والجزيرة السفلى، ويعد الخابور نهراً سورياً بامتياز، فهو ينبع من عدة ينابيع في منطقة رأس العين السورية، إلى الغرب من مدينة رأس العين قرب الحدود التركية، وأهم نبعين في تغذيته، هما: عين الكبريت التـي يبلغ معدل تصريفها نحو 5000ل/ثا، وعين الزرقاء الشمالية2000ل/ثا، وعند الطرف الشرقي من مدينة الحسكة يتلقى الخابور بمياه أهم روافده، وهو نهر جغجغ الذي ينبع من الأراضي التركية، ويمر بمدينة القامشلي متجهاً جنوباً حتى تل براك، بعد أن يتلقى مياه نهر الجراح القادم من تركيا والمار ببلدة القحطانية، ويبلغ طول نهر جغجغ نحو 124كم منها 100كم في الأراضي الســورية الحالية، ومتوســط غزارته 2.2م3/ثا، وغـزارتـه في ذروة الفيضـان نحو 5.9م3/ثا، وفي موسم الجفاف أو التحاريق 0.8م3/ثا، ويبلغ إجمالي طول نهر الخابور 442كم من منبعه إلى مصبه، ويبلغ متوسط تصريفه الســنوي نحو 10.3م3/ثا، وتصريفه فـي ذروة الفيضان 12.1م3/ثا، وفي موسم التحاريق7 م3/ثا تقريباً (علي موسى، الموسوعة العربية، مادة الخابور).

وقد أدى جفاف الخابور إلى خروج مساحات هائلة من الأراضي التي كانت تروى منه على امتداد النهر الذي يزيد على 400 كم، وبلحظة تأمل دون الخوض في لغة الأرقام نستنتج بأن المساحات المروية التي زادت في مناطق رأس العين، لعلها تعادل المساحات التي خرجت عن الاستثمار الزراعي على ضفاف الخابور على امتداد 400 كم، استناداً على كفاية قدرة الإرواء لتدفق النهر فإن ما جرى هو استبدال أراضي ضفاف النهر بأراضٍ تروى بآلاف الآبار الارتوازية في رأس العين، هذا علاوة على النتائج السلبية على سكان القرى المترامية على ضفتي النهر على امتداد الأربعمئة كيلو متر، والثروة الحيوانية التي كان المزارعون يقومون بتربيتها بالتوازي مع أنشطتهم الزراعية.
ثانياً: اضمحلال المياه السطحية، إذ كان السكان يحفرون بضعة أمتار بشكل يدوي، ويصلون لمياه الشرب السطحية، وربما كانت جذور بعض الشجيرات في البادية تصل إليها، الآن لايمكن الوصول لهذه المياه يدوياً، وباتت على الأعماق تزيد على خمسين متراً.
ثالثاً: من الناحية الاجتماعية هجرة السكان من هذه المناطق الشاسعة على مجرى الخابور إلى المدن القريبة وحتى العاصمة نتيجة جفاف النهر، إضافة لترك السكان للشق الحيواني من نشاطهم الزراعي.
رابعاً: التأثير في الثروة الحيوانية، ولا توجد إحصاءات دقيقة لحجم الفاقد كما هو الحال في قطاعات كثيرة، ولكنه كبير جداً.
خامساً: حجم الضرر الذي حصل على البادية بعد حفر الآبار فيها، إذ تشير الدراسات إلى أن أراضي البادية تعرضت للتدهور حتى بدت بعض المواقع فيها جرداء وخالية من أي نبات، ولاسيما من الشجيرات الرعوية المعمرة؛ نتيجة كسر الأراضي بالفلاحة، وانتشار حفر الآبار العشوائية، وباتت تعاني من مظاهر التصحُّر المتمثلة بالانجراف الريحي الذي يعدُّ العامل الرئيس المؤثِّر في تدهور الأراضي، كما أشارت الدراسات إلى أن نسب إسهام مختلف الأنشطة في تصحُّر البادية، إذ بلغت نسبة المساحة المتأثرة بالفعل البشري 98 % تتوزع بنسب 49 % للحراثة و41 % للرعي، و8 % للاستعمال العام (حسن حبيب، الموسوعة العربية)، وتفيد تقارير وزارة الزراعة في الجمهورية العربية السورية لعام 1994 بأنَّ الزراعات البعلية توسعت في البادية السورية اعتباراً من منتصف الثمانينات حيث بلغت 552000 هكتار في عام 1990.
وبيَّن الباحث محمود عسكر في بحث له منشور في مجلة جامعة الفرات تناول فيه تحليل مفصل لتكرارية ظهور العواصف الغبارية بحسب الأشهر والسنوات وعلاقتها بالجفاف ومساحة الأراضي المتدهورة في شرق البادية، وأظهرت الدراسة أن عدد العواصف الغبارية على مدار السنة ولفترة استمرت من عام 1984 ولغاية 2009 بأنها باتت أكثر تكراراً في نهاية فصل الربيع وبداية فصل الخريف، وقد سجل في عام 1991 أكبر عدد من الأيام المغيرة، وبلغ 115 يوماُ.. منها 27 يوماً في شهر حزيران، أما في السنوات 2008 و 2009 فقد سجل حوالي 74 عاصفة غبارية تدنت فيها مدى الرؤيا إلى مادون 100م، وبلغ عدد الأيام المغبَّرة أكثر من 200 يوم في عام 2009، وقدرت كمية الغبار المحمولة في العاصفة التي اجتاحت المنطقة الشرقية بتاريخ 31/4/2011 بحوالي 35.5 مليون طن، وهذا يعني بأن مليارات من التربة تحملها العواصف في كل عام.
ومع قناعتنا المطلقة بأنَّ التغيرات المناخية أسهمت في حالة الجفاف في مختلف بلدان العالم، ولكن هذه الخطوات ساعدت في تسريع ظهور التغيرات المناخية بصورة كبيرة، ومضاعفة تأثيرها ولا مجال للشك في ذلك، والسؤال الذي يطرح هنا ما البدائل التي كان من الضروري العمل عليها؟
أولاً: كان من المفترض تنظيم عمليات الحفر استناداً لدراسة أحواض المياه الجوفية، بما يتناسب مع قدرتها على تعويض المياه المستنزفة، وأن تكون عمليات الحفر تحت مراقبة الدولة من حيث الأعماق المسموح بها.
ثانياً: وكان ينبغي إلزامية اعتماد أساليب الري الحديثة التي توفر ما يزيد على نصف المياه المستهلكة بالري التقليدي (بالغمر) وتزيد الإنتاج بنسب قد تصل إلى 30%، وتقديم القروض للمزارعين بتنفيذها وإشراف الدولة على التنفيذ والمتابعة.
ثالثاً: استخدام المجاري الطبيعية للأنهار في إيصال بعض مياه دجلة بالمضخات إلى نهر الجراح وهي مسافة قريبة وليست بالبعيدة عن نهر دجلة، ومن نهر الجراح تسلك المياه المجرى الطبيعي لنهر جغجغ وصولاً للخابور عند مدينة الحسكة وتستمر إلى نهر الفرات، وهذا لايتطلب دراسات للأقنية المخطط إنشاؤها والتي تستغرق سنوات وتنفيذها الذي يحتاج أيضاً لسنوات، ولاسيما بعد الجدل الذي نشأ حول مسار هذه الأقنية.
إذاً حققنا الاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح فعلاً، وصدرناه أيضاً، ولكن لم ننتبه لمشكلة أكبر، ودفعنا الثمن أضعافاً مضاعفة، في حين لو كنا أخذنا بالحسبان البدائل التي كان من الضروري العمل عليها لكنا كسبنا القمح والمياه معاً، ولم ندخل في متاهة الجفاف.

ومع أيماننا المطلق بضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح ومختلف المحاصيل الزراعية بشقيها النباتي والحيواني، وتحقيق الأمن الغذائي، واستقلالية قرارنا السياسي، فويل لأمة لا تأكل مما تزرع، ولكن ألّا يكون ذلك بعشوائية على حساب تدمير مكونات البيئة، وتجاهل أهداف التنمية المستدامة ومبادئها، بل بأساليب علمية وتخطيط محكم لتحقيق مختلف جوانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة.
* أستاذ في جامعة دمشق

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص