الثورة_ محمود ديبو:
كثيراً ما جرى الحديث عن الانحرافات والتجاوزات العمرانية في مختلف المدن والمحافظات، ولعلها واحدة من المشكلات المزمنة التي نمت وتطورت خلال العقود الماضية بفعل عوامل مختلفة ساهمت في ذلك.
ورغم وجود مخططات تنظيمية إلا أن المشهد الأكثر حضوراً في الحالة العمرانية لمختلف المدن والمحافظات هو المخالفات الكثيرة التي ظهرت وتنامت وانتشرت خلال أكثر من نصف قرن حتى وصلنا إلى ما مصطلح (المخالفات القابلة للتسوية).
وهنا السؤال الجدلي الذي طرحه المهندس ماهر شاكر أمين سر فرع دمشق لنقابة المهندسين وأجاب عنه قائلاً: لماذا مخالفات قابلة للتسوية، لأنه لا يوجد نظام بناء صارم يمنع المخالفة، وبالتالي تركها مرنة بحيث يمكننا النظر فيما إذا كانت قابلة للتسوية أم لا، وهنا يتدخل النفوذ والمال لجعلها قابلة أو غير قابلة للتسوية.
على ذمة محافظ سابق
ويتابع: لعل أكثر ما يثير الغرابة هو صدور كتاب تحت عنوان (مجموعة مخالفات البناء الخاصة بمدينة دمشق) عام 1987 وبعده صدرت مجلدات حول المخالفات القابلة للتسوية وهي باعتراف أحد المعنيين في محافظة دمشق (محافظ سابق) خلال ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن هناك أي نص قانوني قبل أوائل ستينيات القرن الماضي يعالج مخالفات البناء معالجة فعالة، وهذا في مختلف محافظات القطر ودمشق، حيث لم يكن هناك مخالفات تذكر على اعتبار أنه لم يكن هناك نظام خاص بالبناء، وبالتالي فإن صغر رقعة المدينة وقلة عدد سكانها الأصليين وندرة الوافدين إليها للسكن جعلت من المخالفات شيئاً لا يذكر أو أنها لم تكن تعتبر مخالفة آنذاك.
وفي العام 1960 صدر القرار رقم 44 متضمناً تقسيم مخالفات البناء، حيث بدأت تتكاثر حتى حاصرت المدينة وبالتالي أصبح من الضروري صدور قانون للمخالفات، ومشكلة المخالفة أنها غير موجودة بنظام البناء حتى ترخص نظامياً وبالتالي أصبحت مخالفة وباتت تحتاج لقرار لتسويتها أو تركها على حالها وفقاً للمهندس شاكر.
ويشير إلى أنه بحسب المعني بمحافظة دمشق في تلك الفترة، فقد أصبحت النصوص التي تعالج المخالفات كثيرة ومتشعبة ومتشابكة حتى صار من المتعذر على أي من العاملين في المحافظة من فنيين وإداريين أن يفرق بين النص المُعَدِّل، والنص المُعَدَّل، وكذلك بين النص الساري المفعول والنص الملغى، وأصبح الجميع في متاهة من فوضى النصوص واضطراب المراجع.
وفي هذا السياق يقول المهندس شاكر الملاحظ أن القوانين والتشريعات والأنظمة العمرانية السورية منذ عام 1970 إلى 2019 تشكل موسوعة ضخمة مجموعة في مجلدين بواقع 1300 صفحة، فهذا الكم من القوانين يُفسد المنظومة ككل ويتيح بالمجال للمخالفة أن تنمو وتتكاثر ويشرعنها، بمعنى أن هذا الكم من التشريعات شيء مربك.
وبالحديث عن واقع المخططات التنظيمية وأنظمة البناء والإشكالية بينهما يرى المهندس ماهر أن هناك علاقة ضرورية بين نظام ضابطة البناء والمخطط التنظيمي، وفي دمشق نجد أن نظام ضابطة البناء المعمول به حتى الآن أصبح عمره 28 سنة، فبعد صدور المصور التنظيمي لمدينة دمشق (ايكوشار) عام 1968 تم العمل على إصدار نظام ضابطة بناء جامع للقرارات السابقة وفق نظام ضابطة البناء رقم 97 لعام 1948 وتعديلاته، ثم صدر بعد نظام جديد لضابطة البناء في العام 1978، واستمر العمل به إلى العام 1997 حيث صدر نظام ضابطة بناء جديد رقم 492 وهو المعمول به حتى الآن، ولكن للأسف هذا غير مرتبط بمخطط تنظيمي جديد لدمشق.
وبعد ذلك سعت محافظة دمشق لإصدار نظام ضابطة بناء جديد ومتطور وهذا كان منذ عام أو أكثر، لكن سعيها اصطدم بعدم قبول الجهات الفنية من مهندسين عاملين في مجال الترخيص، واعتبروا آنذاك أن مشروع النظام الجديد لضابطة البناء لا يرقى إلى موجبات إصداره.
دور النقابة الرقابي
ومن وجهة نظره يرى المهندس شاكر أنه من بين أهم ضوابط منع الانحرافات والتجاوزات العمرانية أن تأخذ نقابة المهندسين دورها الرقابي وألا تبقى متفرجة على فساد الوحدات الإدارية وأنظمة الترخيص والقرارات المعدلة لأنظمة ضابطة البناء.
ولا بد من تحريم تسوية المخالفات، ذلك أنه إذا كان لدينا نظام بناء مستند على مخطط تنظيمي صحيح، وقراراته مدروسة ويجري عليها تحديث دوري كل عدة سنوات، فإن هذا يكفي ليمنع أي مخالفة وهو ما نحتاجه.
تحديات وإشكالات
وعليه يرى المهندس ماهر أنه من غير المجدي إصدار نظام بناء لا ينطلق من مصور عام جديد يؤمن الارتقاء والتطور المطلوب سواء في أسلوب وآليات إصدار التراخيص، أو في مجالات الأمن والسلامة والتطوير المعماري واستخدام الطاقات المتجددة وتأمين البيئة المستدامة.
كما أنه من الضروري الفصل بين نظام ضابطة البناء الذي يحدد المنهاج العمراني لكل منطقة وشروط وآليات وأسس الترخيص، وبين الكود المعماري بما يتوافق مع الأسس والمعايير المعتمدة محلياً ودولياً.
وبحسب شاكر: من غير المقبول بعد اليوم أن تبقى المكاتب التنفيذية للمحافظات تتدخل بشكل عشوائي، وغير متوافق مع الرؤية الفنية المعتمدة للمدنية، في المنهاج العمراني المصدق للمناطق، وهناك ضرورة لإيجاد آلية مرنة تسمح للوحدات الإدارية بإصدار تراخيص بشكل عملي بعيداً عن المعوقات والتجاوزات والاختراقات.
ومن المهم جداً إعادة النظر بموضوع تسوية المخالفات العمرانية كونها تمثل النقيض المباشر لمفهوم وجود نظام ضابطة بناء.