قوبل إعلان الرئيس دونالد ترامب حول الانسحاب الأميركي من سورية بامتعاض وإدانة واسعة من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، الأمر الذي ينبئ عن قصر نظر واضح في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية بدرجة تفوق ضيق مساحة أفق ترامب.
يسود اتجاه واحد لدى الحزبين يقول بضرورة بقاء القوات الأميركية في شتى أرجاء العالم بغية الحيلولة دون محاولة أعداء أميركا لملء الفراغ الذي تحدثه عملية الانسحاب. ويعتقد الحزبان بأن تحقيق السلام في المنطقة أمر بعيد المنال.
تسوغ مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية البقاء الأميركي في سورية لأسباب تتعلق بالحرب على تنظيم داعش. لكن ترامب يرى في ذلك خدعة تدبرها مؤسسته. وعلى نحو مفاجئ نجد تلك المؤسسة تعلن عن الدوافع التي تحدو بها إلى طلب تمديد الوجود الأميركي، وأهمها كون تلك الخطوة تقدم مزايا جيوسياسية لكل من سورية وروسيا وإيران بينما تجعل إسرائيل عرضة لمخاطر جمة وتشكل خيانة لقوات سوريا الديمقراطية وتسبب تداعيات أخرى لا علاقة لها بتنظيم داعش.
لقد كان للتغير في نهج ترامب دور في كشف الأهداف الأميركية الحقيقية في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة لم تتحمل عبء الذهاب إلى سورية (العراق، افغانستان، اليمن، القرن الإفريقي، ليبيا، أو أي مكان في المنطقة) لمحاربة تنظيم داعش الذي جاء نتيجة للوجود الأميركي في المنطقة، وقد بات من المؤكد بأن الأهداف الحقيقية تتمثل في الهيمنة الإقليمية الأميركية لكن تداعياتها ستكون كارثية على المنطقة برمتها.
في الواقع، ثمة تعتيم على الدوافع والأسباب الداعية لبقاء القوات الأميركي في سورية. لكنه من الثابت والمؤكد بأن البقاء لا يتعلق بتحقيق الديمقراطية في هذا البلد أو أي مكان في المنطقة، ذلك الأمر الذي يؤكده احتضان واشنطن للمملكة السعودية. ويضاف إلى ذلك بأنه سبق وأن اتخذت الولايات المتحدة قرارها بتعزيز التنظيمات المسلحة في سورية منذ عام 2011 لأسباب لا تتعلق البتة بتحقيق الديمقراطية في هذا البلد، بل لأنها تعتبر سورية تشكل عقبة أمام تحقيق المصالح الإقليمية الأميركية. وبذلك أصبحت الاتهامات الموجهة إلى دمشق واضحة تتمثل بتحالفها مع موسكو وتلقي الدعم من طهران.
ولذات الأسباب، نجد الرئيس السابق أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون يسعيان إلى زعزعة الاستقرار في سورية، الأمر الذي يؤكد بأن أميركا وشركاءها الإقليميين بمن فيهم إسرائيل وتركيا والسعودية والإمارات وقطر اتخذوا قرارا بتزويد التنظيمات المسلحة بالأسلحة والخدمات اللوجستية والعمليات التدريبية والمقرات. وقد وقع أوباما على وثيقة رئاسية دعا بها الاستخبارات المركزية الأميركية للعمل مع السعودية لإسقاط الحكومة السورية، وعمد إلى دعم التنظيمات المتطرفة. وقد باتت الأهداف من العمليات في سورية واضحة تتمثل بتنصيب حكومة موالية لتركيا والسعودية تعارض روسيا وتخرج القوات الإيرانية من سورية. ويبدو أن كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والسعودية يحملون ذات التوجه.
يبدو أن أهداف الاستخبارات المركزية الأميركية قد فشلت فشلا ذريعا، خاصة بعد أن كشفت روسيا المؤامرة الأميركية وساندت سورية، كما أن إيران لم تأل جهدا إلا وبذلته في سبيل تقديم الدعم والمؤازرة لها أيضا. ومع ذلك فإن حرب الوكالة التي أذكتها الولايات المتحدة وحلفاؤها قد أفضت إلى مقتل 500,000 من المدنيين والمقاتلين وتهجير الملايين فضلا عن تسببها بأزمة اللجوء في أوروبا. وإزاء هذا الواقع عمد العديد من المتطرفين البرابرة إلى الانشقاق عن الفئات المقاتلة وتشكيل تنظيم داعش الذي لم يتوان عن نشر مقاطع فيديو صادمة يظهر بها قطع رؤوس الأميركيين والأسرى، مما أوجد مبررا لأوباما بالتدخل عام 2014 عبر تنفيذ هجمات جوية، ومن ثم التموضع للقوات الأميركية في مواقع من سورية واعتمادها الدعم والمساندة لقوات سوريا الديمقراطية.
من وجهة نظر ترامب فإن حكومة دمية في سورية تنصبها الولايات المتحدة تتمكن من إبعاد روسيا وإيران أمر غير مجد بالنسبة للأمن القومي الأميركي ويتعذر تطبيقه من الناحية العملية.
إن الدبلوماسية الناجحة أمر ممكن لو أدركت مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية لمرة واحدة بأن اللجوء إلى الدبلوماسية التي تستند إلى قوانين الأمم المتحدة تمثل في واقعها الأسلوب السليم. إذ برعاية الأمم المتحدة (المعبرة عن موافقة ضمنية لكل من الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة) فإن ثمة ست خطوات من الممكن التوافق عليها لإرساء السلام الأوسع وليس خلق حرب أوسع.
تتمثل الخطوات الست بما يلي: أولا، مغادرة القوات الأجنبية المعادية كافة الأراضي السورية (بمن فيهم الولايات المتحدة والمتطرفين الذي يلقون دعم السعودية وتركيا) ثانيا، دعم مجلس الأمن لسيادة الحكومة السورية على كامل أراضي بلادها. ثالثا، ضمان مجلس الأمن لسلامة ميليشيا «قسد». رابعا، التزام تركيا بعدم اجتياح الأراضي السورية. خامسا، تعليق الولايات المتحدة عقوباتها التي فرضتها على إيران. سادسا، أن تعمل الأمم المتحدة على تأمين التمويل اللازم لإعادة اعمار سورية.
وثمة صورة أخرى لسلام أهم في الشرق الأوسط تتمثل بتعايش تركي إيراني مع العرب. إذ ان العقبة الكبرى منذ التوقيع على معاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الأولى قد نجمت عن التدخل الواسع الذي قامت به كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة في قضايا متعددة.
لقد آن الأوان لترك هذه المنطقة تحل شؤونها الخاصة بنفسها دون أوهام تقول بأن لدى القوى الخارجية القدرة التي تمكن أحد المتنافسين من تجنب تقديم تنازلات. ويتعين على الدول الأجنبية الإحجام عن الاستمرار بضخ الأسلحة التي تشعل الحروب. وعلى سبيل المثال تتوهم إسرائيل والسعودية بإمكانية قيام الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات رادعة ضد إيران دون أن تقدم أي تنازل مقابل ذلك.
بعد مضي 100 عام على بداية التدخل الإمبريالي الغربي آن الأوان للتوصل إلى حلول وتسويات سلمية يقبل بها جميع اللاعبين في المنطقة على أن يتم تحت مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولي.
Project- Syndicate
بقلم: جيفري ساتشس
ترجمة ليندا سكوتي
التاريخ: الأربعاء 9-1-2019
رقم العدد : 16880