لعله من المبكر جداً وربما المبالغ فيه كثيراً الحديث عن قرب انهيار الولايات المتحدة الأميركية كأنموذج حكم أو كقوة إمبراطورية عظمى تتحكم بمصير العالم أسوة بنماذج إمبراطورية سبق لها أن هيمنت ثم تراجع نفوذها وتلاشت.. حيث الأمثلة على ذلك عبر التاريخ أكثر من أن يتسع لها المجال، غير أن مؤشرات التناقض والصراع والتفكك بين ما يسمى الدولة الأميركية العميقة التي تتحكم بمفاصل صنع القرار وتدير مؤسسات الحكم الكبرى من خلف الكواليس وبين ما يسمى الإدارة الأميركية «الحكومة» التي تستلم دفة الحكم لفترة مؤقتة مع انتخاب رئيس جديد للبلاد حول العديد من الملفات الكثيرة وتشي بوجود أزمة حقيقية بين الطرفين قد تدفع مع مرور الوقت لأزمات أوسع وأكبر.
عند الحديث عن نقاط القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة فإن أول ما يقفز إلى الواجهة هو متانة النظام السياسي وقوة الاقتصاد وكذلك القوة العسكرية، بينما هناك نقاط أخرى لا يتم الحديث عنها غالباً كحالة المجتمع وأوضاع الحريات والأقليات وما يتصل بها من شؤون وقضايا.
منذ مجيء دونالد ترامب إلى الحكم قبل سنتين بدأ العالم يلاحظ بوادر أزمة سياسية تكشفت ملامحها عبر صراعات متعددة منها صراع داخل البيت الأبيض أدى لاستقالة العديد من موظفيه، وصراع بين البيت الأبيض والكونغرس عبر الاعتراض المستمر على قرارات الرئيس والتشكيك بانتخابه وأهليته للحكم، وصراع بين البيت الأبيض والبنتاغون أدى لاستقالة مسؤولين كبار بينهم وزير الدفاع الأقرب إلى ترامب، وصراع بين الرئيس ووسائل الإعلام أدى إلى ما يشبه القطيعة بينهما، كل هذه الصراعات أدت إلى قيام ترامب باتخاذ العديد من القرارات المزاجية والمتسرعة والارتجالية عبر التويتر، قرارات تم تجميد بعضها وقرارات ألغيت وقرارات يجري حولها جدل مؤسساتي كبير بسبب التداعيات السلبية المحتملة لها، أي أن النظام السياسي الأميركي الحالي في مأزق مرشح للتفاقم في ظل رجحان كفة معارضي ترامب في الحزبين الرئيسين في البلاد وفي عدد من مؤسسات صنع القرار بواشنطن.
بعض القرارات التي استطاع ترامب تمريرها أدخلت البلاد في خصومة مع حلفاء أميركا وخاصة تلك التي تتعلق برفع الرسوم الجمركية على بعض المواد كالصلب والألمنيوم كما أدى انسحاب أميركا من بعض الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المهمة ورفع شعار «أميركا أولاً»، إلى إحداث أضرار بالغة بعلاقات أميركا مع العالم ولم يكن الاقتصاد الأميركي الذي يشكل الرافعة الرئيسية لقوة أميركا عالميا بعيدا عن التأثيرات.
وللعلم فقط فإن الاقتصاد الأميركي في الأساس يعاني من أزمات متتالية ومتراكمة أساسها ازدياد الفجوة بين الفقراء والأغنياء حيث تتساهل السياسات الضريبية مع الأغنياء على حساب الفقراء، كما أنه لم يعد من المسموح للعمال تشكيل النقابات العمالية التي تطالب بالأجور العادلة وتحسّن ظروف العمل كما أن أغلب العاملين يعانون أزمات نتيجة انخفاض الحد الأدنى للأجور.
وفي المجال العسكري يعاني الجيش الأميركي باستمرار من أزمات مالية ومشكلات بالتسليح وخاصة بعد خوضه الكثير من الحروب بذريعة محاربة الإرهاب والتدخل في العديد من المناطق، وهذا ما يدفعه لاستهلاك مبالغ فيه للموارد الوطنية يقدر حجمه بتريليونات الدولارات في بعض الأحيان وكل ذلك على حساب الاستخدامات المفيدة للمجتمع الأميركي، ولعل الجميع يتذكر إعصار كاترينا الذي ضرب عددا من الولايات الأميركية عام 2005 وأحدث أضرارا هائلة وقفت إدارة بوش عاجزة عن معالجتها بسبب الإنفاق العسكري الهائل على حرب العراق.
وبحسب العديد من الخبراء يعد الجيش الاميركي أحد أكبر ملوثات البيئة في العالم في الوقت الذي ما تزال فيه السياسة الخارجية الأميركية تعتمد أحداث الحادي عشر من أيلول لتبرير سياسات العدوان والتطاول على سيادات الدول والشعوب بحجة محاربة الارهاب كما جرى في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا واليمن ومناطق أخرى.
أما على الصعيد الاجتماعي فقد كشف مركز جلوبال ريسرش البحثي مجموعة من الحقائق تثبت اقتراب انهيار الولايات المتحدة تضمنت الانهيار الاجتماعي الذي يعانيه المجتمع حتى أن الدولة لم تعد قادرة على حماية مواطنيها من هجمات المسلحين المتطرفين كما أنها باتت عاجزة عن توفير الوظائف والأجور والحياة المعيشية المناسبة لعدد كبير من سكانها خاصة الشباب والمهاجرين وأولئك الذين ينتمون للأقليات العرقية.
وفيما يخص وسائل الإعلام فمن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تنتهك حرية الفكر والتعبير الخاصة بوسائل الإعلام من خلال استخدام صلاحياتها لتقديم الدعاية المستمرة لمصلحتها حسب مصالح القلة التي تتحكم فيها، في الوقت الذي تواجه فيه وسائل الإعلام الحرة هجوما مستمرا، وكثيرا ما تجبر الدولة وسائل الإعلام على بث دعاية خبيثة لتبرير الانتهاكات التي ترتكبها أميركا بحق الدول الأخرى، ولا تخفى على أحد حالة العداء بين ترامب وبعض وسائل الاعلام حيث منعت العديد من الوسائل من تغطية فعاليات في البيت الأبيض وتلقت شتائم وانتقادات لاذعة من ترامب.
وأما أخطر المشكلات التي تعاني منها أميركا كدولة فهي سياسة التمييز العنصري ضد السود حيث يمتلئ المجتمع الأميركي بالعنصرية على أساس اللون والجنسية والتي يتم استخدامها ضد الأقليات وخاصة الأقلية السوداء ومن المعروف أن الدولة تسيطر على المؤسسات التعليمية والعسكرية وكذلك دور العبادة، وهذا يضيف مشكلات جديدة لما تعانيه الولايات المتحدة بالأساس، فمثلا يعتبر السعي المحموم لبناء جدار على الحدود مع المكسيك لمنع دخول المهاجرين إلى الولايات المتحدة تناقضاً كبيرا مع الأساس الذي أنشئت عليه البلاد أي المهاجرين الذين ساهموا بنهضة أميركا وتطورها وقوتها الحالية.
تشير حالة الانسحاب العسكري الأميركي من بعض المناطق كأفغانستان والشرق الأوسط عموماً إلى شعور بالفشل وعدم القدرة على تحقيق الأهداف الموضوعة للتدخل والعجز عن التمويل المالي لوجود طويل الأمد وخشية من المستقبل، وفي مطلق الأحوال مع وجود كل هذه المؤشرات لا يمكن لأحد أن يدعي أن أميركا بخير أو أنها كما كانت قبل عقدين من الزمن.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 9-1-2019
رقم العدد : 16880