الضرب بيد من حديد.. “داعش” القوى المزعزعة للاستقرار السوري

الثورة – نور جوخدار:

يستمر تنظيم “داعش” في تشكيل أحد أبرز التحديات الأمنية العالمية، رغم مرور أكثر من نصف

عقد على انهيار ما كان يُعرف بـ “دولة الخلافة” في العراق وسوريا.

فالتنظيم الذي خسر الأرض والموارد لم يفقد قدرته على التكيّف وإعادة إنتاج نفسه، عبر خلايا صغيرة ومرنة تنتشر في آسيا وإفريقيا وأوروبا.

وقد أظهرت السنوات الأخيرة أن الهزيمة العسكرية لم تكن كافية لإسقاط بنيته التنظيمية أو تفكيك أيديولوجيته، بل دفعته نحو مرحلة جديدة من اللامركزية العملياتية، والتخفي الاستخباراتي، وإعادة بناء شبكاته العابرة للحدود.

التحولات في بنية “داعش”

أوضح الباحث والأكاديمي المتخصص في الحركات الدينية، الدكتور عبد الرحمن الحاج، أنه مع

سقوط آخر معقل لتنظيم “داعش” في الباغوز لم يعد للتنظيم منطقة جغرافية يسيطر عليها في سوريا، إذ انتهت الخلافة وتحول إلى مقاتلين متناثرين ومطاردين.

لكن التنظيم سرعان ما أعاد بناء نفسه عبر استراتيجية جديدة تقوم على “القطاعات الأمنية” بدلاً من “الاحتفاظ بالأرض”، وقلل من مركزيته، مانحاً فروعه حرية التصرف والحركة في البلدان التي ينتشر فيها.

وأضاف الباحث في تصريح خاص لـ”الثورة”، أن ذلك مكّنه من تعزيز حضوره في بلدان وسط

أفريقيا، إضافة إلى بقائه فاعلاً في سوريا والعراق من خلال شبكات تجنيد وتمويل، وتنفيذ عمليات متصاعدة ضد القوات العراقية وقوات “قسد” بشكل خاص، وفي أحيان أخرى استهدف قوات نظام الأسد، وركز على قتال المعارضة و”هيئة تحرير الشام” آنذاك.

ومع ذلك فشل التنظيم في التمدد في مناطق سيطرة المعارضة أو مناطق سيطرة النظام.

وبيّن الدكتور الأكاديمي، أن التنظيم كان يحاول السيطرة على العقد الاستراتيجية في الطرق

الرئيسية وضرب قدرات القوى المختلفة في البادية السورية ومنع خصومه من السيطرة، وبقائه حياً ومؤثراً.

وبعد التحرير وسيطرة الجيش السوري على الطرق الرئيسية والبادية عقب انتصار الثامن من كانون الأول/ديسمبر، فقد “داعش” القدرة على شن هجماته داخل البادية، ما دفعه إلى تغيير استراتيجيته بالانتقال إلى المدن وإنشاء خلايا نائمة للقيام بعمليات نوعية يمكن أن تضرب استقرار البلاد وتمنع استتباب الحكم لخصومه اللدودين.

في 20 آب/أغسطس 2025، حذر وكيل الأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب فلاديمير فورونكوف، من أن التهديد الذي يشكله تنظيم “داعش” لا يزال متقلباً ومعقداً.

وعلى الرغم من مقتل العديد من قادته، إلا أن التنظيم تمكن من الحفاظ على قدرته العملياتية.

وأشار فورونكوف، إلى أن تنظيم “داعش” لا يزال نشطاً في العراق وسوريا، ويعمل على استعادة قدراته العملياتية في منطقة البادية السورية، ويجدد جهوده لزعزعة استقرار السلطات المحلية، ساعياً إلى استغلال الثغرات الأمنية، والانخراط في عمليات سرية، وإثارة التوترات الطائفية في

البلاد.

كما حذر من استخدام “داعش” للتقنيات الجديدة مثل منصات الرسائل المشفرة لتأمين اتصالاته، والتمويل الجماعي لجمع التبرعات، واستغلال الذكاء الاصطناعي في الدعاية والتجنيد.

السيطرة الحكومية في مثلث الموت

أكد الباحث عبد الرحمن الحاج، أن البادية هي المساحة الأوسع التي يُتوقع أن تكون القدرة على السيطرة عليها أضعف من أماكن أخرى نظراً لاتساع المساحات التي تحتاج إلى عدد كبير من الجنود.

ومع ذلك استطاعت الحكومة ضبط البادية، وعجز تنظيم “داعش” عن القيام بعمليات ذات أهمية

فيها، فالسيطرة للجيش السوري المحكمة يمكن ملاحظتها في “مثلث الموت” في الصحراء، في حين

فشل التنظيم في تنفيذ عمليات في مناطق السيطرةالحكومية بالبادية، لكنه نشط وكثف عملياته في مناطق سيطرة “قسد”، مما يشير إلى فارق الكفاءة في مواجهة التنظيم.

وفي قراءة استشرافية لـ “المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات” حول قدرات تنظيم “داعش” في أوروبا والعالم، أكد أن التنظيم دخل مرحلة جديدة من التحول البنيوي والأيديولوجي والعملياتي منذ سقوط ما سُمّيت بـ “دولة الخلافة” في العراق وسوريا عام 2019.

فبعد سقوط آخر معاقل تنظيم “داعش” في الباغوز السورية في آذار/مارس 2019، تراجع نفوذ التنظيم من كيان هرمي قائم على “المركز” و”الولايات” إلى شبكة مرنة من الخلايا المستقلة ذاتياً.

وعلى الرغم من خسارته ما يقارب 88 ألف كيلومتر مربع من الأراضي، أعاد التنظيم تشكيل نفسه في بنية أكثر مرونة.

ووفق تقارير أممية (2023-2024)، بات التنظيم يعتمد على “اللامركزية العملياتية” بوصفها استراتيجية للبقاء، دون الرجوع إلى قيادة مركزية واضحة، بل يمنح الولايات حرية التخطيط والتنفيذ وفقاً للظروف الميدانية.مثّلت العراق وسوريا النواة العقائدية والرمزية لتنظيم “داعش”، لكن السيطرة الفعلية للمركز على الولايات باتت محدودة، وفقاً لتقارير “مجموعة المراقبة التابعة لمجلس الأمن”. وأصبحت العلاقة بين المركز والولايات تعتمد على “نظام تفويض”، أي تفويض لا قيادة مباشرة.على سبيل المثال، تعمل “ولاية خراسان” في أفغانستان كياناً مستقلاً إدارياً ومالياً، حيث تمتلك مواردها وقيادتها الخاصة، وتتبنى أحياناً توجهات مغايرة للتنظيم، خاصة في عدائها لطالبان ورفضها لأي تسوية سياسية. بينما تعتمد ولايات إفريقيا، مثل “ولاية غرب إفريقيا” (ISWAP) في نيجيريا و”ولاية

الصحراء الكبرى”، على تحالفات قبلية ومحلية لبناء نفوذها، وتُظهر مرونة في الأيديولوجيا والممارسات بما يتلاءم مع بيئاتها الاجتماعية.

هذه البنية المتعددة الأقطاب جعلت من “داعش” أشبه بشبكة عالمية للتطرف العنيف، لا تخضع لتوجيه مركزي، لكنها تتشارك الأهداف الكبرى: نشر “الجهاد” العالمي، وإسقاط الأنظمة المحلية، ومواجهة القوى الغربية.

ورجّحت تقارير أممية (2025) أن يكون القائد الحقيقي عبد القادر مؤمن، زعيم فرع التنظيم في الصومال، ضمن توجه نحو قيادة أفريقية أكثر حضوراً وتأثيراً.

كما تلمّح بعض التقارير الاستخباراتية إلى أن “داعش” في العراق وسوريا يعتمد على “خراسان” لتمويل وتدريب بعض العناصر، في تبادل أدوار يعكس ضعف التنسيق المركزي وقوة الفروع.

التمدد نحو أوروبا والعالم

وأوضح الباحث، أن تنظيم “داعش” يشكل خطراً إقليمياً ودولياً أيضاً، فهو موجود في قارتين على الأقل وفي عدة دول، وبشكل خاص في أفريقيا. ومع ذلك انخفض خطر التنظيم في سوريا بسبب السيطرة الحكومية ومكافحة التنظيم، إلا أن الخطر لا يزال قائماً، ومواجهة خطر التنظيم تتطلب يقظة مستمرة وعملاً حكومياً دؤوباً.

وأشار إلى أن التنظيم سيركز على بناء خلاياه في المدن الرئيسية السورية، وربما على استهداف الأقليات الدينية والمسيحيين بشكل رئيسي، لأنه يجد فيها الخاصرة الرخوة التي يمكن أن ترسل رسالة قوية إلى الغرب حول مدى أمان المسيحيين في سوريا وقدرة الحكومة السورية على

الاستقرار وحماية الأقليات.وبيّن أن خيارات التنظيم محدودة مع عجزه عن القيام بعمليات هجومية بقوات عسكرية كبيرة،

وبالتالي يُتوقع أن يستمر في بناء خلاياه النائمة في المدن والبلدات الكبيرة، ويركز على أهداف نوعية.

أما عن دلالات تهديد واشنطن لمواجهة “داعش” في نيجيريا، أوضح الحاج أن وصول التنظيم إلى مرحلة تهديد للمصالح الأميركية في هذا البلد، ونجاح الولايات المتحدة بقيادة تحالف دولي ضد التنظيم في سوريا والعراق، حفزها على الإعلان عن إمكانية اتخاذ خطوة مماثلة هناك.

مصادر التمويل ونشاطه

طور تنظيم “داعش” منظومة الضرائب والجبايات في العراق وسوريا من خلال شبكات تمويل غير رسمية، وتشير تقارير الخزانة الأميركية لعام 2023 إلى أن احتياطات التنظيم المالية تتراوح بين 25 و50 مليون دولار، يديرها وسطاء في العراق وتركيا ووسط آسيا.

ومن أهم مصادر تمويله: التحويلات المشفّرة عبر العملات الرقمية التي تُستخدم لنقل الأموال إلى الولايات، والابتزاز والفدية من عمليات الاختطاف في مناطق الساحل ونيجيريا، وتهريب الذهب والنفط والمخدرات في إفريقيا وسوريا، إضافة إلى الدعم غير المباشر من شبكات متعاطفة عبر الإنترنت توفر تبرعات صغيرة متكررة.

تشير أحدث التقديرات إلى وجود ما بين 2500 و3000 مقاتل نشط من تنظيم “داعش” في سوريا، يعملون ضمن مجموعات لا تتجاوز 10 عناصر، يعتمدون على السرعة والحركة المتكررة للتهرب من المراقبة الجوية، كما يوجد آلاف المؤيدين المنتشرين ضمن شبكات قبلية أو في مخيمات اللاجئين.

وتشير التقديرات إلى تصاعد ملحوظ في نشاط التنظيم بين حزيران/يونيو وتشرين الأول/أكتوبر 2025، خاصة حول “البصيرة وجبل البشري والسخنة وذيبان في دير الزور”، والتي يصفها المراقبون بـ “مثلث برمودا”.

انخفض عدد الهجمات التي تبناها التنظيم في سوريا بشكل ملحوظ منذ أن فقد آخر ما تبقّى من سيطرته على الأراضي السورية في آذار/مارس 2019، إلا أن هذا الوضع تغيّر في عام 2024، حيث ازدادت هجمات التنظيم، على عكس الوضع في العراق.وكانت الإحصائيات كالتالي: 1055 هجوماً عام 2019، 608 هجمات عام 2020، 368 هجوماً

عام 2021، 297 هجوماً عام 2022، 121 هجوماً عام 2023، و296 هجوماً عام 2024. ويعادل ذلك زيادة بنسبة تقارب 250 بالمئة عن العام الفائت.

فيما نفّذت خلايا التنظيم 31 هجوماً في محافظتي الرقة والحسكة ما بين كانون الثاني/يناير وتشرين الأول/أكتوبر 2025، وفقاً للمركز الأوروبي.

ويتمثل جانب آخر من تهديد “داعش” في سوريا بوجود أكثر من 10 آلاف مقاتل في 28 مركز

احتجاز تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، إلى جانب ما يقرب من 60 ألفاً من أفراد عائلاتهم المحتجزين في شمال شرق سوريا.

وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد أعلنت عن تقليص قواتها في سوريا إلى أقل من 1000 جندي، وتخفيض وجودها في العراق، في نهاية مهمة استمرت أكثر من عقد ضد تنظيم “داعش”.

وكما كان مخططاً له، فإن هذا الانسحاب التدريجي يفرض تحدياً إضافياً على قدرات الحكومتين السورية والعراقية لمنع تمدد التنظيم عبر الحدود.

سوريا الجديدة في مواجهة التنظيم

بعد سقوط نظام بشار الأسد، نفذت وزارة الداخلية السورية والأجهزة الأمنية عمليات نوعية ضد خلايا تنظيم “داعش”.

فقد أعلن المتحدث باسم الوزارة نور الدين البابا، في أوائل الشهر الحالي، أن الحملة التي تقوم بها وحدات وزارة الداخلية، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات العامة، تأتي في سياق العمليات الوقائية بهدف تحييد أي خطر لتنظيم “داعش” قبل أن يبدأ، وخاصة أن جهاز الاستخبارات العامة ووزارة الداخلية التقطا معلومات تفيد بوجود نية لدى التنظيم لتنفيذ عمليات جديدة، سواء ضد الحكومة أو ضد المكونات في سوريا.

وقال البابا في مقابلة مع قناة “الإخبارية السورية”: إن “العملية الأمنية اشتملت على 61 عملية دهم في مختلف المحافظات السورية، شملت: حلب، إدلب، حماة، حمص، دير الزور، الرقة، دمشق وريفها، والبادية السورية.

وأسفرت حتى الآن عن 71 عملية اعتقال، شملت قيادات من مختلف المستويات، بالإضافة إلى عناصر عاديين ارتكبوا جرائم عدة، من بينها استهداف مواطنين وعناصر من وزارة الدفاع”.

وأشار البابا إلى أن العمليات الأمنية أسفرت أيضًا عن تحييد عنصر من تنظيم “داعش”، وإصابة أحد عناصر الأمن، بالإضافة إلى مداهمة مخازن ومستودعات للذخيرة والسلاح وأوكار تحتوي على معدات لوجستية في مناطق عدة.

ولفت البابا إلى أن هناك تعاوناً وتنسيقاً كبيراً بين جهاز الاستخبارات العامة ووزارة الداخلية، حيث تتولى الاستخبارات الحصول على المعلومات وتحضيرها حول مختلف التحديات والتهديدات التي تعكر صفو الأمن السوري، فيما تتولى وزارة الداخلية الجانب التنفيذي للعمليات الأمنية عبر إداراتها المختلفة، وبالتالي هناك تكامل في الأدوار والوظائف وتبادل المعلومات بين الطرفين.

آخر الأخبار
٥٠ منشأة صناعية جديدة ستدخل طور الإنتاج قريباً في حمص الإعلام على رأس أولويات لقاء الوزير مصطفى والسفير القضاة وزير الإدارة المحلية والبيئة يوجه بإعادة دراسة تعرفة خطوط النقل الداخلي سجن سري في حمص يعكس حجم الإجرام في عهد الأسد المخلوع ميشيل أوباما: الأميركيون ليسوا مستعدين لأن تحكمهم امرأة لجنة السويداء تكسر الصمت: التحقيقات كانت حيادية دون ضغوط الضرب بيد من حديد.. "داعش" القوى المزعزعة للاستقرار السوري من الفيتو إلى الإعمار.. كيف تغيّرت مقاربة الصين تجاه دمشق؟ انفتاح على الشرق.. ماذا تعني أول زيارة رس... تفعيل المخابر والمكتبات المدرسية.. ركيزة لتعليم عصري 2.5 مليار يورو لدعم سوريا.. أوروبا تتحرك في أول مؤتمر داخل دمشق مغترب يستثمر 15 مليون دولار لتأهيل جيل جديد من الفنيين بعد زيارة الشيباني.. ماذا يعني انفتاح بريطانيا الكامل على سوريا؟ فيدان: ننتظر تقدّم محادثات دمشق و"قسد" ونستعد لاجتماع ثلاثي مع واشنطن وفود روسية وتركية وأميركية إلى دمشق لمناقشة ملف الساحل وقانون "قيصر" رغم نقص التمويل.. الأمم المتحدة تؤكد مواصلة جهود الاستجابة الإنسانية بسوريا بين "داعش" و"قسد" وإسرائيل.. الملفات الأمنية ترسم ملامح المرحلة المقبلة المنطقة الصحية الأولى بجبلة.. نحو 70 ألف خدمة في تشرين الأول تفجير المزة.. هل حان وقت حصر السلاح بيد الدولة؟ عودة محطة بانياس.. دفعة قوية للكهرباء واستقرار الشبكة نحو شوارع أكثر نظافة.. خطوات جديدة في حلب