من الفيتو إلى الإعمار.. كيف تغيّرت مقاربة الصين تجاه دمشق؟ انفتاح على الشرق.. ماذا تعني أول زيارة رسمية للشيباني إلى الصين؟
الثورة – عزة شتيوي:
ترسم الدبلوماسية السورية اليوم المعادلة الأصعب في توازناتها السياسية، فبعد أيام من زيارة الرئيس أحمد الشرع للعاصمة واشنطن، تتجه الأنظار إلى بكين، حيث وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى العاصمة الصينية.
لكن هذه المرة ليس عن “طريق الحرير” أو ضمن “الحزام والطريق”، أو حتى أي من المسارات السياسية التي ربطت الصين بالنظام السوري المخلوع، بل تحاول دمشق اليوم بناء علاقات مع القوى العالمية الكبرى على أساس التوازن والمصالح المشتركة، والخروج من عقلية التبعية السياسية التي حَشَرَ فيها الأسد موقع سوريا الجيوسياسي الهام.
الخطوة الدبلوماسية السورية نحو الصين تعكس محاولة دمشق فتح آفاق جديدة للتعاون مع هذه الدولة العظمى، ولا تكمن صعوبة هذه الخطوة في التأسيس الدبلوماسي السوري الجديد لدمشق مع بكين، بل في مدى قدرة سوريا على التوازن في علاقاتها بين أميركا ومنافسها الاقتصادي الأول، وهي الصين، خاصة أن زيارة الشيباني تحمل عناوين كثيرة، لكن أهمها تعزيز التعاون الاقتصادي ومناقشة الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط.
من الفيتو إلى إعادة الإعمار
بعد سقوط النظام السابق، فتحت دمشق آفاقاً دبلوماسية واسعة تلائم موقع سوريا الجغرافي والسياسي والتجاري الهام، وأخرجت جهود الدبلوماسية السورية دمشق من خانة الحلف الواحد إلى ساحة دولية واسعة، تتخذ من خلالها قراراتها وخياراتها على أساس المصالح المتبادلة. ليس من السهل لدولة مثل سوريا أن تتوازن في هذه المرحلة الحساسة من عمرها السياسي، حيث يختبر المجتمع الدولي توجهها السياسي ليؤسس علاقاته الاقتصادية معها.
لذلك، تدخل سوريا اليوم من بوابة السلام والاقتصاد، وربما تكون شريكاً سياسياً واقتصادياً مع الجميع وليست ملعباً للتنافس كما كانت سابقاً.
تأتي زيارة الوزير الشيباني إلى بكين لتُنزِل تاريخ “يد الفيتو” الصيني من المنابر السياسية، وتصافح اليد الاقتصادية والاستثمارية للصين التي باتت تُعرف اليوم بـ”التنين الاقتصادي”.
وربما يفتح هذا أمام سوريا الكثير من الاستثمارات الضخمة في مجال إعادة الإعمار وفي جميع القطاعات، كالبنية التحتية والصحة والزراعة والتكنولوجيا.
وهذا ما أشارت إليه الصحف الصينية في رصدها لزيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، حيث أكدت أهمية تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وفتح آفاق جديدة للتعاون في مجالات التكنولوجيا والاستثمار، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية ودعم الاستقرار في المنطقة.
زيارة التوازن بين الشرق والغرب
مهّد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قبل أشهر من زيارته إلى الصين، حيث أكد أن سوريا متجهة للتوازن بين الشرق والغرب، وأنها بصدد تصحيح العلاقة السياسية مع بكين ما بعد أخطاء مرحلة الأسد، وفتح صفحة جديدة تُعاد فيها صياغة العلاقات السورية–الصينية على أساس التعاون العملي بدلاً من الدعم السياسي التقليدي.
تأتي هذه الزيارة لتؤكد نية دمشق في ربط القول بالفعل السياسي، وانتظار حصاد اقتصادي طالما ترقبه السوريون. وتشكل تحدياً كبيراً، كما وصفها المحلل السياسي والاستراتيجي، بسام حاج مصطفى، في تعليقه السياسي الخاص لصحيفة “الثورة” حول زيارة الشيباني، إذ يقول: “بأن سوريا اليوم خرجت من حرب طاحنة أدارها النظام البائد طيلة أربعة عشر عاماً بالطرق التي يتقنها كل طغاة العالم: الموت والدمار.
ومع هروب بشار الأسد، بدأت التحديات الوطنية والإقليمية والدولية بالظهور، من اقتصاد وبنية تحتية مدمرة، وجروح غائرة اجتماعياً على كل الضفاف، ومهمات صعبة لا يستطيع الرماد أن يعالجها.
وعلى الرغم من هشاشة الدولة ودمارها، بدأت ببناء ما يجب أن يعيد الحياة إلى طبيعتها، من علاقات دولية متوازنة هي التحدي الأكبر أمام السلطات الجديدة”.
ويؤكد حاج مصطفى، أن كل الدول تقف متوجسة أمام نتيجة “ردع العدوان”، وطامعة في تطويع ما أمكن لمصالحها بالطريقة التي أدمن النظام السابق على استخدامها، كالمقايضات والتنازلات والخداع، مع فساد متقيح بشعارات الممانعة والمقاومة.
دمشق تعيد ترتيب خرائطها السياسية
وحول إعادة دمشق الجديدة، بمساعدة أصدقائها الجدد إقليمياً وعربياً، ترتيب علاقاتها مع الغرب، يقول بسام حاج مصطفى: “أعادت دمشق بنجاح رسم مسارات جديدة متوازنة سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً في فترة قصيرة، متجاوزة عزلة الخمسين عاماً، في وقت تكاثرت فيه القراءات المختصرة والمستعجلة والعمياء.
وانتقلت إلى ترتيب علاقاتها مع الشرق، فبدأت بالعدو الأول الذي لا تخلو العلاقة معه من آثار الجروح الغائرة التي تركها طيرانه ودعمه العسكري والسياسي للنظام المخلوع في جسد السوريين، لتُظهِر فهماً سياسياً عميقاً للفرق بين ضرورة العلاقات المتوازنة لحماية التوازن والاستقلالية النسبيين الضروريين لإنهاء حقبة نظام الفساد والاستبداد”.
وجاء دور الصين التي تُعتبر أكبر قوة اقتصادية في الشرق، وهي الأكثر أهمية في بناء علاقات سياسية واقتصادية مع السوق، إذ تمثل سوريا أحد ممرات التواصل بين الأسواق الغربية والشرقية، ومحطة تاريخية في طريق الحرير القديم، ومؤهلة لتكون محطة في الطريق الجديد.
ويلفت حاج مصطفى إلى أن المراقب للأحداث الجارية يلحظ أن الرؤية السياسية الاقتصادية التي تتكشف ملامحها في الحراك الدبلوماسي السوري تتسم بالعملية والجدية، وحسن استثمار السلطة الجديدة لكل عناصر المعادلة، والحفاظ على سوريا موحدة، وبناء علاقات استراتيجية مجدية، بالإضافة إلى إعادة الإعمار الوطني بكل النواحي، وإنهاء مفاعيل النظام المخلوع، محاصِرةً بذلك القوى المستفيدة من دمار سوريا وسيطرة الفوضى والاستمرار بالسيطرة على القرار الوطني، ومعيدةً ترتيب البيت الداخلي وفق مشتقات إدارية عصرية تسمح للسوريين بتجاوز آثار الحرب على مستوى صدوع الهويات الفرعية.
ويؤكد المحلل والناشط السياسي بسام حاج مصطفى، أنه ليس سهلاً تحرك الدبلوماسية السورية بدون أوراق سياسية واقتصادية، وهي موجودة بشكل كامن حتى الآن، وينبغي علينا أن نراها بعيون الدول الكبرى التي تحاول إنجاح عودة سوريا من دمارها وعزلتها.
وأعتقد أن هذه الأوراق هي محركات الحماسة الأميركية والأوروبية نحو دعم التعافي والاستقرار في الشرق الأوسط، ومكافحة الإرهاب والميليشيات، وإنهاء التمدد الإيراني، و”بناء شرق أوسط خالٍ من الحروب”.
وحول الإحداثيات السياسية لسوريا، يقول حاج مصطفى: “بأن زمن الشعارات والصفقات وتمديد الحكم للطغاة يغلق صفحاته، وما على السوريين إلا أن ينجزوا دولتهم الوطنية وفق توافقاتهم كشعب واحد في وطن موحد حر ومستقل، فالزمن يتغير”.
هل تغيرت البوصلة الصينية تجاه سوريا؟
كان الفيتو الصيني يشكل عقبة حقيقية مع الفيتو الروسي في طريق قرارات ومشاريع مجلس الأمن ضد نظام الأسد المخلوع، حيث دعمت بكين هذا النظام، ولكنها لم تذهب في دعمها إلى الحد الذي ذهبت إليه روسيا.
فقد استخدمت الفيتو ضد العديد من المشاريع الغربية التي كانت تهدف إلى فرض عقوبات على نظام الأسد، وربما كان ذلك جزءاً من محاولتها “الملاكمة” على المسرح الدولي بهدف التوسع في منطقة الشرق الأوسط والمواجهة مع الغرب في معركة تحويل النظام العالمي إلى التعددية القطبية.
إلا أن الفيتو الصيني، رغم دعمه للنظام السوري المخلوع في الساحة السياسية، لم يتحول إلى مساعدات اقتصادية أو استثمارات كبيرة في سوريا طوال 14 عاماً. فقد كانت الصين حذرة، ولم تدخل عسكرياً على خط الحرب السورية أو ترسل مساعدات عسكرية ضخمة لإنقاذ النظام السوري المخلوع على غرار ما فعلت روسيا وإيران.
بل بقيت في إطار الدعم السياسي لنظام الأسد في الأمم المتحدة، واقتصر تعاونها الاقتصادي معه -الذي رفعته في المنابر الإعلامية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية- على استثمار محدود وإعلان شكلي عن انضمام لخرائط الحزام والطريق الصينية.
ويأتي هذا الحذر الصيني من رؤيتها التي كانت متوجسة من الوضع الأمني في سوريا آنذاك.
أما اليوم، فالجميع يترقب السلوك الصيني تجاه سوريا، والذي تحفظ على التصويت لقرار رفع العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع في مجلس الأمن.
لذلك، تحظى زيارة الشيباني إلى بكين بأهمية في الإعلام الغربي والصيني، حيث تناول مقال للكاتب جوناثان مولر في صحيفة “نيويورك تايمز” زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى الصين، مؤكداً أهميتها في تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين البلدين، خاصة أن الزيارة تأتي عقب اجتماع الرئيس السوري أحمد الشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن، ما يشير إلى تحركات دبلوماسية مكثفة من قبل الحكومة السورية.
وقال مولر: “إن توقيت زيارة الشيباني إلى الصين حرج، حيث يأتي في وقت تسعى فيه الدولتان لتعزيز التفاهم المتبادل بين الشرق الأوسط وآسيا”. ووفقاً للمقال، فإن هناك توقعات بأن تؤدي هذه الزيارة إلى تحسين العلاقات الاقتصادية، عبر توقيع اتفاقيات جديدة في مجالات مختلفة مثل الطاقة والتكنولوجيا.
من جهة أخرى، ركزت الصحف الصينية مثل “تشاينا ديلي” على أهمية الزيارة من منظور صيني، مشيرة إلى أنها تعكس رغبة الصين في تعزيز حضورها وتأثيرها في منطقة الشرق الأوسط. وقد كتب الصحفي لي وانغ في “تشاينا ديلي” أن هذه الزيارة تمثل فرصة لتعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين، خصوصاً في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية العالمية الراهنة.
تقول التحليلات، إن زيارة الشيباني إلى تشير إلى استراتيجية دبلوماسية تحاول التوسع عبر تنويع العلاقات الدولية وتحمل رسائل دمشقية عناوينها الشراكة الدولية بعيداً عن التبعية للأحلاف والتكتلات والالتحاق بالمعسكرات السياسية، واليوم وتطرق دمشق أبواب الصين متجاوزة ما سبق ولحق من مواقف سياسية انخفضت حدتها من الفيتو إلى عدم التصويت في مجلس الأمن لتصافح بيد دبلوماسية وأصابع اقتصادية دولة مثل الصين الأقوى تجارياً في العالم، محاولة التوازن أي الدبلوماسية السورية على حبل العلاقات الدولية دون الوقوع في الأخطاء والحفر السياسية للنظام المخلوع الذي حول سوريا إلى ساحة للعب الدولي معاركه الدبلوماسية والعسكرية أيضاً، أما اليوم فتخطو دمشق على سجادة السيادة وتمد جسور الاقتصاد لأنها الأكثر متانة في بناء العلاقات بين الدول.