وقتما سألتُ أحد الأخوة باعة الخضار والفواكه، في سوق باب سريجة الدمشقي في أواسط شباط الماضي عن سعر الكمأة التي كان يضعها في عبوات متعدّدة، كبيرة وصغيرة ومفروزة حسب حجم حبّاتها ولونها وأشرتُ له إلى تلك العبوة التي تحتضن حبات سمراء نظيفة ومتوسطة الحجم تشبه حبّات البطاطا الصغيرة فأجابني بأن سعر الكيلو الواحد يصل إلى 10 آلاف ليرة .
قرصني هذه القرصة، وانحرف عني قليلاً، ليلتفتَ إلى زبونٍ آخر يريد بعض الفواكه الأخرى، ولكنني بقيتُ واقفاً أتأمّل حبّات الكمى التي ضربت بذلك رقماً قياسياً في سعرها، فاق حتى أسعار الفواكه الإستوائية، المنتجة محلياً أو حتى تلك القادمة من الأدغال الإفريقيّة، ورحتُ أسألُ نفسي لماذا هذه المبالغة كلها بسعر الكمأة ..؟!
صحيحٌ أنها لا تُزرع وهي من محاصيل الصدفة، حيث تخرج من تحت الأرض إلى سطحها في بوادينا السورية، بعد رشقاتٍ إلهيّة من البرق والرّعد، وهي من المحاصيل النادرة التي تبقى قليلة العرض، فمن الطبيعي أن يكون سعرها مرتفعاً، ولكن ليس إلى هذا الحدّ إطلاقاً، فصحيح أنّ عرضها قليل، ولكن الصحيح أيضاً أنّ طلبها قليل، والقلّة في طرفي (معادلة العرض والطلب ) تقتضي اعتدال الأسعار ولكن الغريب هنا أن هذه القلّة تضربُ باعتدال الأسعار عرض الحائط.
ولكن يبدو أن ملاعب الرعد والبرق المنتعشة هذا العام والمتزايدة، انعكست على خروج الكمأة بكثافة كبيرة، فتحرّك حولها قانون العرض والطلب، وجذبها إليه، لتنخفض الأسعار قليلاً أمام زيادة العرض، فيوم أمس عدت إلى السوق نفسه في باب السريجة، وبدا كأنه قد تحوّل إلى معرضٍ للكمأة، فلا يكاد يخلو تاجر خضار وفواكه من بسطةٍ يعرض عليها عدة أنواع من الكمى المتعددة الألوان والأحجام، وأسعارها تراوحت اليوم بين 1500 إلى 7000 ليرة، وهذا السعر الأخير كان أعلى الأسعار، وفي محل ذلك التاجر الذي اتهمني في المرة السابقة بأنني لا أعيش في هذا البلد، اقتربت منه وسألته عن الأسعار، فابتسم وقال: اطمئن .. لقد انخفضت، فأبو العشرة آلاف صار بسبعة آلاف .. وراح يشير لي إلى عدة أصناف: هذا بخمسة آلاف، وذاك النوع بثلاثة، أما هذا وهو نوعية جيدة بألفين وخمسمئة، وذاك بألف وخمسمئة، ولكنني لا أنصحك به، وهو نوع يبدو كالحصى الصغيرة.
على كل حال بالفعل يبدو أن الكمأة هذا العام شكّلت طوفاناً إنتاجياً غير مسبوق، ففي كل محافظة تمتد أراضيها إلى البادية حكايات وحكايات عن دهشة الأهالي بزيادة ظهور الكمأة، ويقدر الخبراء الزراعيون الموسم الحالي لـ (الكمأة) في سوريا بنحو 20 ألف طن، وقدّروا قيمتها بحدود نصف مليار دولار، ولكن لا ندري ما مدى دقة هذه التقديرات.
والكمأة تتوزع في مناطق قطافها على بوادي وأرياف حمص وحلب وحماة ودمشق والسويداء ودير الزور والرقة والحسكة والتي تتشكل نواتها من اتحاد النتروجين والهيدروجين بفعل الشرارة الكهربائية الناتجة عن البرق، والتي تدور فوق التراب جاذبة إليها الأملاح المختلفة التي تهبها قيمة غذائية عالية، فهي لا تُزرع زراعةً، وهذا ما جعلها تحافظ على هويتها كواحدة من السلع النادرة.
الثورة – علي محمود جديد
التاريخ: الجمعة 15-3-2019
رقم العدد : 16932
السابق