تعيد النكبة إنتاج ذاتها، وما تعجز عنه إسرائيل ومنظومة العدوان الأميركي يتكفل الأعراب به، بعد أن بات وجودهم أخطر النكبات العربية التي تنذر بما هو أكثر كارثية، في ظل مشهد إقليمي يتداعى أمام سلسلة من التطورات الخطيرة، بعد أن رفعت أميركا من سقف تهديدها ووعيدها.
فما يجري لا ينفصل عن ذاك الذي شهدته المنطقة قبل واحد سبعين عاماً، رغم الاختلاف الجوهري في التداعيات.. قديمها وجديدها، وسط حالة من الذهول والفجيعة العالمية بالسياسة الأميركية في عهد ترامب، التي تحاكي أخطر فصول المواجهات الساخنة في العالم، وتعيد إلى الذاكرة البشرية نماذج من الرعونة السياسية والتهور في استخدام فائض القوة.
المعضلة كانت ولاتزال في محاكاة عربية ترسم إلى حدٍّ بعيد فصول النكبة بطريقتها، وتتسبب في التشوهات الحاصلة في المشهد العربي، والتصدّعات الناتجة عن خلل المواجهة حين ابتدعت لنفسها مجموعة من الإحاطات الخاطئة، وتركت الحبل على غاربه لتداعيات الانكفاء عن المواجهة، وصولاً إلى التحوّل إلى الضفة الأخرى، مروراً بالتآمر المنتظم على القضية والتعاطي من تحت الطاولة ومن فوقها مع الإسرائيليين، والاستجابة العمياء للطلبات الأميركية رغم فداحة الإذلال الذي تنطوي عليها.
فالنكبة هنا ليست في التآمر الاستعماري فحسب، وليست في الدور المشبوه الذي قامت وتقوم به بعض الأنظمة فقط، وإنما في المآل الذي وصلت إليه هذه الأنظمة نتيجة الانخراط العلني في صفقات كانت دائماً على حساب القضية الفلسطينية وضد الحق الفلسطيني، وخصوصاً ما ارتبط منها بالمشهد القائم كحصيلة نهائية للدور الأميركي وتبعاته المختلفة في السياسة وعلى الأرض، وانتهاء باستجداء المقاربات الأميركية والإسرائيلية لفرض إحداثيات المشهد الإقليمي.
وجوهر ما تواجهه الأمة اليوم أن الإدارة الأميركية ومعها إسرائيل تحاولان تمرير ما عجزتا عنه بالعدوان والعربدة وفائض القوة وفرق التوازن بالإملاء، ومن خلال بعض المشيخات، حيث يتحول ما يجري إلى مجرد صفقة تبيع فيه المشيخات قرارها وسيادتها وترهنها لمصلحة إسرائيل وأميركا، وفي خدمة مشروع إعادة تركيب المنطقة، لتكون على مقاس الرغبات الإسرائيلية والأطماع الأميركية، والفارق في الحساب يكون دائما لمصلحة تسخير إمكانات المنطقة ومواردها وتحويل شعوبها إلى وقود للحروب الأميركية المتحركة والمتنقلة.
قد لا تكون الفروق القائمة ذات قيمة فعلية على الأرض، وربما لا تضيف الكثير من العوامل إلى مشهد بات عبئاً يثقل كاهل المنطقة، لكنها في الوقت ذاته تحمل مؤشرات الانكسار في حوامل المشروع الأميركي بنسخته الإسرائيلية، وتبدو متخمة إلى حدّ الإشباع بعوامل التصدع الواضحة في آخر المقاربات التي تحملها أميركا لتكون جزءاً من إستراتيجيها المتحركة والممسوكة بالحسابات الخاطئة لإدارة يحركها الطيش والتقديرات المغلوطة.
فالنكبة التي مرَّ عليها واحد وسبعون عاماً، وسبقتها عشرات السنين من التخطيط، لا تزال عاجزةً عن كسر إرادة الوجود، ولا تزال تثير في الوجدان العربي كل هذا الإدراك بالخطر القائم ومفرزات الانعكاسات الناتجة عن نكبة النسخ المكرورة من الأدوار الوظيفية في خدمة المشروع الأميركي، وهو يكفي للجزم بأنّ المشهد الذي عجزت عشرات السنين عن تطويعه لابدَّ أن يكون قادراً على إعادة تطويع الأحداث والمتغيرات، لتكون في لحظة قادمة على مقاس التطلعات، وهي اللحظة التي باتت أقرب مما يعتقد الكثيرون، فظلمة الليل تكون حالكة في ساعات ما قبل الفجر.
بقلم رئيس التحرير علي قاسم
a.ka667@yahoo.com
التاريخ: الخميس 16-5-2019
رقم العدد : 16979