شهر حزيران له في ذاكرة الوطن حدثان لا يبارحان لثقل السواد فيهما على النفس العربية الأول هو: في الخامس منه عام 1967م حين بدأ الهجوم الصهيوأوروبي على الدول العربية المحيطة بكيان العدوان ليحتلّ هذا العدوان ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين من الدول العربية المجاورة، ولتتغير معه معادلات المنطقة العربية في المشروع القومي العربي برمته حيث تم تركيز الحرب النفسية على العرب من قبل التحالف الصهيوأطلسي عموماً بأنهم – أي العرب- ليسوا جديرين بالرد على العدوان وإزالة آثاره، لأنهم لم يقطعوا الشوط الحضاري الذي يتمكن من استخدام آلة الحرب الحديثة، والتكنولوجيا المرافقة لها.
وكم أصغينا إلى تصريحات الغلاة الصهاينة التي تستهين بالعقل العربي، وتستكبر عليه، وتصف كيان العدوان بأنه يمتلك الجيش الذي لا يقهر، وأن الكيان نفسه يمثل واحة للتقدم، والديمقراطية، والحضارة بما لا قِبَلَ للعرب بمواجهته ولن يمتلكوا -مهما اعتقدوا، أو حاولوا- الإرادة اللازمة لخوض الحرب على الكيان الإسرائيلي.
وكذلك سخّرت اللوبيات الصهيونية في أوروبا، وأميركا كافة قواها الدعائية، والإعلامية عبر سيطرتها المعروفة على الميديا الدولية لكي ترسّخ الانطباع بحق دولة العدوان العنصرية بالحياة، رغم عدوانها واكتسابها لأراضي الغير بالقوة ومخالفة هذا الحال للقانون الدولي، ولشرعة الأمم المتحدة وما يتعلق بحق الأمم في تقرير مصيرها الوطني بإرادتها الذاتية الخاصة.
وهكذا صار العرب يواجهون خطاب القوة الدولي وكأنهم ليسوا أصحاب حقوق تاريخية مشروعة، وكأنّ تقرير مصيرهم بأنفسهم ليس حقاً مشروعاً لهم أسوة ببقية أمم الأرض، وطفق هذا الحال يفرض نفسه في العلاقات الدولية ليكون ما سمّوه المجتمع الدولي مضللاً في وعيه حول احتلال فلسطين والأراضي العربية فتنقلب الصورة إلى عربٍ يعتدون على دولة تسعى لأن تحقق الكيانية والأمن لشعبها، وبناءً عليه يصبح كيان العدوان مشروع وله في تقرير المصير، وكافة عدواناته مشروعة حتى يَرُدّ عن نفسه العداء العربي والخطر العربي، والتهديد العربي الدائم.
وتحت هذه المظلة مرّرت دولة العدوان حروبها العدوانية، ومشروعها التهويدي، وعملت مع الأطلسيين على احتواء النظام العربي (نظام سايكس- بيكو) ولا سيما ممالك الرمال ومشيخاتها، ودول عربية في شمال أفريقيا لكي لا تبقى قضية فلسطين، والأراضي العربية المحتلة قضية مركزية للعرب، ولا تجتمع عليها المجموعة العربية إنْ في الجامعة، أو في مؤتمر القمة العربية، ولو قمنا بتحليل قرار العدوان الصهيوأطلسي على دول الطوق العربية لرأينا أن عدداً من الممالك، والجمهوريات كان على علم بالعدوان ومحرّضاً عليه بذريعة تهديد النظامين القوميين في سورية ومصر للأمن الوطني لهؤلاء الذين ساندوا الصهيونية على احتلال فلسطين، منذ اجتماعات آل سعود مع الشخصيات الصهيونية الناشطة في المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين تنفيذاً لترهات دينية من الوعد الإلهي، إلى هرمجدون، إلى وعد بلفور 1917م.
ووفقاً لما آل إليه الحال صارت منظومة الكفاح ضد المشروع الصهيوني لاصقة أكثر بالدول المعتدى عليها وصار القرار الأممي /242/ مدار السجال السياسي لما في نصّه من إشكال بين اللغتين اللتين نُصّ بهما: الإنكليزية، والفرنسة، فالنص الإنكليزي يترجم على أن كيان العدوان يجب أن يتراجع عن أراض احتلها، أما النص الفرنسي فيترجم بالتراجع عن الأرض التي احتلها، وحذف أل التعريف قد أدخل قضية الاحتلال في نفق للسجال مجهول النهاية، وكل ذلك بقصدية واضحة أن يدوم الاحتلال ويُفرض على العرب القبول بسياسة الأمر الواقع، ومنذ الخامس من حزيران 1967 تصاعدت الغطرسة الصهيونية إلى أبعد مدى عرفته البشرية الحاضرة.
وقد استمر هذا الحال إلى أن بدأ عهد القائد المؤسس حافظ الأسد في 16/11/1970م حيث دخلت سورية في مرحلة جديدة من الهيكلة الوطنية للدولة، والشعب، والجيش، وبدأ الإعداد لتحقيق الشعار الذي كان مختلفاً عليه في الطبقة السياسية وهو: التحرير والبناء بتلازمية واحدة، ولم تمضِ سنوات ثلاث حتى تمكن الرئيس حافظ الأسد من أن يقنع المسؤولين في جمهورية مصر العربية بخوض الحرب العربية الأولى ضد الكيان الصهيوني وتحرير الأراضي التي احتلت في الخامس من حزيران، وإزالة آثار العدوان ثم إحقاق الحقوق التاريخية للشعب العربي الفلسطيني في أرضه، ودولته، وتقرير مصيره الوطني بإرادته الذاتية الخالصة.
وعلى ضوء ذلك قامت حرب تشرين في 6/10/1973م كأول حرب عربية بقرار عربي ضد الكيان الصهيوني منذ احتلال فلسطين عام 1948م، وفي مجريات الحرب سقطت مقولة الدولة التي لا يمكن للعرب الهجوم عليها، وسقطت مقولة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، وسقطت مقولة تخلّف العرب عن تكنولوجيا الحرب الحديثة، وتحول كيان العدوان إلى مستغيث بأوروبا، وأميركا، ويذكر العالمُ أن دايان وغولدا مائير كانا يبكيان بسبب الزعزعة التي حصلت بجيشهم، وفي دولتهم، وكيف اكتشف المستوطنون كذبة الأمن الأبدي لهم على أرض فلسطين، وصارت الهجرة المعاكسة للصهاينة تهدّد وجود كيان العدوان من الأصل.
وعندئذٍ جاءت جيوش الأطلسي لتنقذ كيان العدوان من الانهيار الداخلي، وبهذا الحال ظهر هدف آخر للحرب العربية عند مسؤولي مصر، بأنهم أرادوها حرب تحريك لقضية احتلال الأراضي العربية وقضية فلسطين عموماً، بينما كان هدف سورية تحرير الأراضي العربية، وبكل ما سعت المرجعيات الأمروأوروبية لدى أدواتها العرب ظلّت حرب تشرين قادرة على تحقيق المنجز الأول وهو فرض قومية المعركة ضد كيان العدوان الصهيوني، وفرضت الاعتراف بهزيمة الدولة السوبرمانية، وهزيمة جيشها الذي ادّعت أنه لا يُقهر، وما فرضته حرب تشرين بقيادة القائد حافظ الأسد هو أن الإرادة العربية التي اتخذت قرار الهجوم في حرب تشرين ستظل قادرة على اتخاذ قرار هجوم آخر في الزمن العربي المناسب، وأن تاريخ الخوف العربي من كيان العدوان العنصري قد انتهى وصار الزمن العربي يشير إلى انهيار الزمن الصهيوني في المنطقة العربية ما أدّى إلى أن تنصبَّ من جديد المخططات الأمروصهيوأوروبية على عدم تمكين العرب من استثمار نتائج حرب تشرين التحريرية، وفتح ثغرات في التضامن العربي، وقومية المعركة ضد كيان الاحتلال لتتحول الصراعات إلى عربية-عربية- ضد كيان العدوان الصهيوني. ومنذ انتهاء حرب الاستنزاف التي شنّتها سورية بمفردها على الكيان الصهيوني وحرّرت فيها القنيطرة، وبعض مناطق الجولان في 1974م والقائد الراحل حافظ الأسد يعبيء فراغ الزعامة العربية بمواقفه الثابتة في جبهة الصمود والتصدي، ويمنع تأثيرات خروج السادات ومصر من الصراع العربي مع كيان العدوان، كما يمنع مخططات التسوية، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، حتى تبقى فلسطين حيّة وغير قابلة للتصفية، وفي كل خسارة استراتيجية للعرب كان التعويض الاستراتيجي عند حافظ الأسد عبر تعديل ميزان التوازن الاستراتيجي مع العدو، وقد لاقى القائد المؤسس وجه ربّه في العاشر من حزيران عام 2000م وهو مطمئن إلى أننا لن نتنازل عن مقولته رحمه الله:( إذا كنا غير قادرين في هذا الجيل أن نحقق النصر فلا يمكن أن نورِثَ القادمين صكوك استسلام).
بقلم د: فايز عز الدين
التاريخ: الخميس 13-6-2019
رقم العدد : 16999