الملحق الثقافي:سامر منصور:
الوجود الإنساني محددٌ بمكانٍ وزمان، وقد وجد الإنسان نفسه في نهاية الألفية الثانية يمضي الكثير من زمانهِ مشغولاً في بدعٍ وابداعٍ لم يعرفهُ الأجداد.. العوالم الافتراضية، وسائل التواصل الاجتماعي، السينما.. إلى أي آفاق تحملنا مُفرزات عصر التكنولوجيا تلك؟
بل لعل السؤال الأهم الذي يمكن طرحهُ في عصر التكنولوجيا الذكية: ماذا بعد؟!
ولىَّ عصر الآلة.. ومقولة الإنسان بات كالآلة والتي ترمز إلى تفكك الروابط الاجتماعية وغلبة العلاقات النفعية والأنماط الروتينية على حياة الإنسان مازالت مُنطبقة على الواقع المُعاش.. ودخلنا عصر التكنولوجيا ثم التكنولوجيا الذكية.. لتظهر في هذا العصر مئات آلاف العوالم الافتراضية.. فهل سيكون ما بعد عصر التكنولوجيا الذكية، عصر العوالم الافتراضية؟! وهل سنقول بوجود حياتين للفرد، حياة حقيقية، وحياة عقلية افتراضية؟
إن الأقراص المُدمجة التي تحتوي العوالم الافتراضية هي السلعة الوحيدة التي يباع منها في اليوم الأول لطرحها في الأسواق ما لا يباع من أي سلعة أخرى.. فما سرُّ هذا التهافت؟! وإلى أين سيقودنا، خاصة وأنه في وتيرةٍ متزايدة بشكلٍ مرعب؟ لنلقي نظرة على إحصائيات في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة.
أرباح أهم الشركات المصنعة للعوالم الافتراضية لعام 2010:
• شركة (نينتدو) اليابانية احتلت المركز الأول حيث وصلت أرباحها إلى 15.75 مليار دولار.
• شركة (سوني كومبيوتر إنترتيمنت) اليابانية وبلغت أرباحها 13.4 ملياردولار.
• شركة (مايكروسوفت جيما ستديوز) – الولايات المتحدة الأمريكية 12.82 مليار دولار.
والقائمة تطول.. ومن الظواهر التي لا تدعو إلى التفاؤل التي وقعت في العقد الأول من هذه الألفية هي حُمى الإقبال على ذلك المُنتج الذي لا يوجد سبب منطقي لاستهلاكه، لا بل إنه هو الذي يستهلكنا ولسنا نحن من يستهلكهُ.. فكم وكم من شابٍ يُمضي النزر اليسير من يومه يحقق إنجازاتٍ وهمية في عوالم افتراضية ثم يعود إلى واقعه ليُحدث أقرانه عن تلك الإنجازات وهو يحمل من ذلك العالم الافتراضي ألم الظهر وضعفاً في البصر وشعوراً بالمجد والإنجاز يُقعده عن التقديم لنفسه ولمجتمعه.
حققت النسخة الخامسة من لعبة Grand Theft Auto GTA مبيعات قياسية تجاوزت 800 مليون دولار في اليوم الأول من طرحها في الأسواق، حسب شركة Take-Two المنتجة للعبة.. وطرحت اللعبة في جميع الأسواق حول العالم، عدا البرازيل واليابان.. وقدر محللون أن 14 مليون نسخة من اللعبة بيعت في يومها الأول.. ووقف متحمسون لألعاب الفيديو في صفوف طويلة ليلة الأربعاء أمام محلات بيع الألعاب للحصول على نسخ من اللعبة، علماً أن 7 ملايين نسخة كانت قد حجزت مسبقاً قبل إطلاقها الرسمي. وكانت لعبةGrand Theft Auto محط انتقادات كبيرة من تربويين وعلماء نفس لما تتضمنه من عنف وعري.
هذا الخبر نقلته مئات وسائل الإعلام حول العالم، وهو يُعبر عن ظاهرة في ازديادٍ مستمر، فهل تكاثر العوالم الافتراضية حولنا وبيننا هو نتيجة طبيعية لعصر ما بعد الحداثة الذي اتسم بالاضطراب الاجتماعي والفوضى الشاملة مقارنة مع العصور التي سبقته؟ كما يقول المؤرخ البريطاني تويبني.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الذات التي صارت في هذا العصر حُرة ومبعثرة واستهلاكية وفصامية أوجدت نطاقاتٍ أخرى فوق واقعية لتمارس شكلاً من أشكال الفصام المركب؟ وهل صدق رولان بارت حين قال: «إن النظام بات عدواً للإنسان بعد أن كان سبيل تقدمه وسعادته». فكانت النتيجة عوالم تكرس الأنا وتتقعر نحو ذات مُرتادها ضاربة ً بعرض الحائط كلَّ نظامٍ أخلاقي أو قانوني؟ فأشهر الألعاب في العالم هي تلك التي تُحفز العنف وتضجُّ بألفاظٍ مثل (اقتل – دمر – اسحق – اطعن..إلخ).
وهناك جديد من الألعاب يدمج بين الحركة الذهنية والحركة الجسدية كلعبة «بوكيمون» ولعبة «الحوت الأزرق» ولكنها تقود إلى نشاط حركي غير واع لهاثاً خلف كائن افتراضي، بمعنى أن اللعبة تدمج واقعنا بحيزه المكاني بعناصر افتراضية ويتحرك اللاعب عبر حي بأكمله أو أكثر كي يصل إلى إنجازات ومراحل متقدمة أكثر في اللعبة. وقد تسببت لعبة الحوت الأزرق مثلاً بأكثر من خمس حالات وفاة في الوطن العربي وبمئة وثلاثين حالة وفاة في دول آسيا مجتمعة، قبل أن يتم حظرها.
نعود إلى طرح أهم الأسئلة..
ما هو الفارق الجوهري بين شرود الذهن وأحلام اليقظة أو الذُهان المرضي حيث يحدث الإنسان كيانات لا وجود لها ويتفاعل معها مضيعاً وقته ويغضب ويحزن ويفرح لأجلها وهي غير موجودة، هي العدم.. ما الفرق بين هذا وبين الولوج إلى العوالم الافتراضية وإدمانها؟
ربما لا يطغى على أحلام اليقظة والذهان والعنف وإباحة ما هو غير مباح كما هو الحال في العوالم الافتراضية المنتشرة حولنا اليوم.. لماذا كنا – منذُ بضعة عقود – نعتبر كثرة شرود الذهن والإفراط في أحلام اليقظة والذُهان العقلي.. مثالب وعيوباً ونخشى على أطفالنا منها كثيراً، واليوم شرود الذهن في عوالم خيالية هو مباح ومبرر رغم إيغالها في القسوة والوحشية.. ألمجرد أنه أصبح سائداً بين الأطفال الذهاب في الخيال وإرهاق الذهن في تلك العوالم، أصبحنا نتبع غريزة القطيع ونتواطأ مع بقية الآباء على شرعية ترك أبنائنا ينشغلون وينفقون الساعات ويبذلون مجهوداً ذهنياً في فعل اللاشيء باجتهادٍ وحماس، كي يتاح لنا المزيد من الوقت كآباء للاهتمام بأنفسنا وشؤوننا!
هل يشكل هذا الإقبال على تلك العوالم هروباً جماعياً من الواقع البائس الذي تعيشه البشرية؟
إن كانت ميزة سن الشباب بالقدرات الجسدية، فأيُّ ظلمٍ هذا عندما يجلس الشاب والكهل أمام الحاسوب أو محطة اللعب لساعات فيتساويان في عالمٍ افتراضي يُبعد الشاب عن أن يعيش مستمتعاً بحيوية جسده. وإننا لنجد في الدول الغنية التي تعاني من ارتفاع مستوى البطالة ارتفاعاً في مستوى المبيعات لكل ما تعلق بالعوالم الافتراضية.
فإلى أي مدى يمكن أن تبعدنا العوالم الافتراضية عن حياتنا الطبيعية بكل ما تحتويه تلك العوالم من مُدهشات وفنون تُسمع وتُرى وتتظافر فيما بينها لتمنح ذواتنا الافتراضية أبعاداً فوق بشرية يغشاها مجدٌ أثيلٌ لا يناله إلا القليل من الناس في الحياة الواقعية؟ وإلى أي مدى تجعلنا هذه العوالم ذاتيين وتعزز نرجسيتنا؟ أليس كل ما فيها من موسيقى وإضاءة و.. و.. مكرس لخلق تصاعد درامي مرتبط بحركة وإنجازات وآلام شخصياتنا الافتراضية، التي هي محور ذلك العالم الخلاب المدهش برمته والذي لا وجود له ولا تفاعل بين مكوناته ولا فاعل يُذكر فيه إلا عبر النطاق الحركي والسلوكي لشخصياتنا الافتراضية؟ أليست العوالم الافتراضية التي نخوض فيها عبر الألعاب التي أتاحتها التكنولوجيا الذكية، مصممة بعناية لإشباع جُل الحاجات السيكولوجية للإنسان على نحو أمثل؟ أليست مخلوقة من قبل العقل التي اختار جيناتها وملامحها لتغدو معشوقته؟
وأقتبس مقولة أحد المفكرين: «العقل هو أهم الموجودات، هكذا قرر العقل!!». فإلى أي مدى تشغلنا العوالم الافتراضية عن أن نستوعب أهمية جانبنا غير القابل للاختزال بالعقلنة؟ هل فكرت الشركات التجارية حين أوجدت وطورت العوالم الافتراضية بالأسئلة السابقة أم بالجدوى الاقتصادية فقط؟
هل ستستطيع تلك العوالم الخاضعة بجلِّ ما فيها لنا – ككائنات تتميز بالإرادة – انتزاعنا لساعات وساعات من عالمنا الحقيقي الذي تسير الأمور فيه بشكلٍ رتيبٍ وبإيقاعٍ بطيء نسبة إلى تلك العوالم المدهشة.. وإلى أي مدى سيؤثر ذلك على واجباتنا تجاه ذاتنا وتجاه الأسرة والمجتمع؟
نحن في هذا العصر لا نملك إلا طرح الأسئلة، أما الإجابات فهي بين أصابع المستقبل.
التاريخ: الثلاثاء17-12-2019
رقم العدد : 978