الثورة اون لاين -هناء الدويري:
“أطفالنا محرومون، يعيشون كالنبات البرّي، على الجفاف والعطش، وشعراؤنا لم يترجلوا يوما عن خيلهم الخشبية ليداعبوا طفلا بأنشودة ويضعوا على ثغره أغنية، وأدبنا العربي كاد يكون فارغا فراغا محزنا من أدب الأطفال، ولاسيما شعر الأطفال، ومن هذه القناعة بدأت أكتب للصغار وأنقل همومي إليهم “
هذا ماكتبه الراحل شاعر الطفولة الكبير سليمان أحمد العيسى في مقدمة “مسرحيات غنائية للأطفال “..
مصادر المعرفة لديه بدأت من قريته النعيرية غربي مدينة أنطاكية حيث ولد سنة ١٩٢١ ومن الموروث الثقافي الذي تلقفه من أبيه وجدّه ومن حفظ القرآن الكريم والمعلقات وديوان المتنبي، اعتبرهم قدوة ونموذجا ونمطا من التفكير والتعبير والسلوك عن أسلاف، فجاءت صياغته الشعرية منتجا كاملا للبيان والفصاحة، ويساوي بين اللفظ والمعنى ويتخيّر المفردات بلغة سهلة قريبة من النفس يستقيها من المناهل القريبة.
يخاطب الأطفال والكبار خطابا مباشرا لأنه لا يريد أن تقوم بينه وبين قُرّائه حواجز من اللغة، فيختار أقصر الطرق ،يقول العيسى :
“لست شاعرا…
أرض الآباء والأجداد، أمّ الشعر، وخالقة الشعراء، تريدني شيئا آخر…
تريدني حلما أصلب من الحقيقة وأكبر من الواقع
وأبعد من حدود(الجثة) التي تتحرك
مابين المحيط والخليج
تريدني عربيا..يبحث عن هويته…
عن جوهر وجوده
عن جذوره العميقة في أرضه
يبحث عن أمته
نعم، عن أمته العربية “
عندما سلب لواء اسكندرون من جسد سوريا سنة ١٩٣٨ ،اقتُطعت معه قطعة من القلب بقيت حتى وفاة الشاعر سليمان العيسى ٩ آب ٢٠١٣ تبث لواعج الحنين إلى البيت القروي حيث وُلد ،وبقي يردّد سوريا بخير حتى آخر أنفاسه .
لقد أصبحت قصائده للطفولة تولّد في نفس سامعها تداعيات فكرية ومشاعر وحالات تحرّكه لنصرة فكرة أو محاربتها، والجميل أن مضامينه التي عبر عنها تمثلت في حقائق واضحة، كاملة، ثابتة، تحتوي كل شيء ،ماكان وماسيكون، بحيث ينتفي أيّ مجهول عند الطفل العربي .
كل الإيحاءات والرموز التي قدمها للطفل جعلت منه طفلا يتكوّن وينمو بالاكتشاف والاستيضاح للوصول إلى أجوبة جديدة الفاعلية العلمية الشعرية. عند سليمان العيسى أيضا شكلت لدى الطفل العربي نوعا من العلم، وأصبح الوعي العلمي واللغوي شكلا من أشكال الشعر التعليمي في جوّ صحي للأفكار والمشاعر والعواطف والحقائق بلا ثرثرة أو تكلّف وأصبح يجيد شعرا ومضمونا، يقول العيسى:
“دعوا الطفل يغني
بل غنوا معه أيها الكبار
لابدّ من الجذور والينابيع
لابدّ من قصائد المتنبي وأبي فراس والشريف الرضي وابراهيم اليازجي وغيرهم..
شارك سليمان العيسى بقصائده الشعرية القومية في التظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء اللواء ضد الاغتصاب، وبعدها بتسع سنوات وقف يتأمل المهاجرين الفلسطينيين بعين الحسرة لأن حالهم كحاله وحال أهله، وبقيت فلسطين غصّة في القلب تُضاف إلى اللواء، خاطب أحد اللاجئين الفلسطينيين قائلا:
“أنا مثلك استلبوا ملاعب
فجري الأولى استلابا،
أنا مثلك اغتصبوا تراب
طفولتي الحلوَ اغتصابا “
وتجيئ هزيمة حزيران ١٩٦٧ لتزيد اللوعة والأسى فيقول:
“الكارثة تغلّ روحي
تسد عليّ المنافذ
تذبح في عينيّ النور…تدفنه حيا
طوال عام كامل لو أستطيع أن أقول بيتا
أن أكتب كلمة
طوال عام كامل كنت أتنفس الذلّ
أختنق بالعار
ومن يختنق فإنه لايستطيع أن يكتب “
سورية، فلسطين، اليمن، الجزائر… وكل الوطن العربي أخذ حيّزا كبيرا من حياة الشاعر الراحل سليمان العيسى، وبمرارة التشرد عرف قيمة الكفاح في سبيل الأمة العربية ووحدتها وحريتها.
وبقيت الطفولة وعالمها أنفاسه الرقيقة فهم الأمل ومنهم سيطلع شمس هذه الأمة، حلمه الأكبر الوصول للوحدة العربية، وفي ذكرى رحيله نؤكد له أننا في سوريا لاتزال بطولات وتضحيات وانتصارات الأبناء مستمرة تلك التضحيات التي بقي يُذكّر الشعوب العربية بها عبر قصائده.
طاقات ورود ومحبة ورياحين لروحك في ذكرى الرحيل…فلترقد بسلام وبخير كما تمنيت لسوريا والسوريين كل الخير.