ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم :
لا أحد ينكر أن ثمة من اختلط عليه الأمر بداية، وبعضهم ساق فيه على أنه كذلك، رغم إدراكه بعد حين خفايا ما يجري منذ لحظة التخطيط، ولا أحد يتجاهل أنه في بعض الحالات اختلطت الأشياء ببعضها،
وفي جزء منها كانت نتيجة تدبير متعمد بمشاركة داخلية وخارجية، ولم يعد تدرج الألوان يعبّر عن الحقيقة بقدر ما يعكس انزياحاً في تموضعها وأحياناً خداعاً في الصورة التي تتشكل على خلفيتها.
وهناك من ذهب أبعد من ذلك حين تجاهل ما كان مقروءاً وبوضوح في أبجديات الحالة من عصف سياسي يستدرج بالضرورة الفرز بين الافتراض والواقع رغم الغبار الناشئ عن معارك وهمية اختلقتها الشعارات المغلفة بوردية الأحلام، وكان من الصعب قبول التفسير الساذج الذي ساد في البداية على أنه حياد، فيما الأحداث وتطوراتها منذ الأيام الأولى أو على الأقل في الأشهر الأولى، كانت تشير بإصبع الاتهام وبالقرائن إلى الصامتين وموقفهم.
البعض وجد في الحالة مخرجاً للعزوف عن الانخراط تحت مزدوج القسمة التي راجت ولا تزال حول مفهومي المعارضة والموالاة، حيث بدت غطاء لتمرير المواقف المواربة التي أخطأت في قراءة الحالة، والاستدلال من خلالها على اتجاهات الأحداث وأبعادها، وتغاضت عن حقيقة أن القضايا الوطنية لا تحتمل القسمة، فالجميع موالاة في الحفاظ على ثوابت هذه القضايا وكلهم يعارضون المساس بها، ولم تفلح محاولة إلباس الرمادية طابعها الشخصي ما دامت ترتبط بالوطن، فتشكلت على هوامشها وحوافها جملة من الظواهر التي استطالت في بعض الأحيان إلى حالة مرضية، احتضنت في داخلها الكثير من الأوبئة التي فرخت فيما بعد إفرازاتها المعدية.
في المبدأ .. يبدو التوصيف اللغوي للرمادية «الوطنية» الأكثر دقة للتعبير عن الرائج على مستويات مختلفة، حيث وجدت فيها بعض الشرائح أو الفئات مبرراً للنزوع نحو الهروب من تحمل المسؤولية، وفي الاستخدام السياسي كانت أكثر استدلالاً من كل الاستخدامات السابقة والطارئة التي استولدتها الأزمة، حيث جاءت للتخفيف من حالة الحرج التي تشكلت لدى البعض حين لم يكن الإحساس بالخطر الداهم يوازي أو يقارب ما يشكله من تداعيات على الوطن وأمنه واستقراره.
أما في المعيار الاصطلاحي.. فقد تجاوزت المدلولين السياسي واللغوي لتستقر على توصيف قد لا تكون فيه المقاربة مقترنة بما يعكسه في الواقع، بل بما يترجمه التحايل تحت لافتة الرمادية من تسويف وإغراق في المصطلحات التي تصطف بالتوازي مع جملة من المفردات التي تثير الشبهة بالواقعة ذاتها، حيث الغاية الفعلية كانت استيلاد مجموعة من الظواهر التي تتكامل مع بعضها لفرض الصورة المسبقة مع الإضافات التي تقتضيها عملية الترميز الوظيفي لكل ما تم استخدامه.
فكثير من المصطلحات جاءت وكأنها في سياق وجهات النظر، رغم أنها لا تقبل ذلك تحت أي مسمى، مهما تكن العوامل التي تملي حضورها، والغريب أن البعض ساق في المسألة ولم تعد قضايا الخيانة الموصوفة بدءاً من المجاهرة في التعامل مع العدو إلى الاستقواء بالخارج .. إلى التحريض على العدوان والدفع به .. بل مساعدته عملياً واستخباراتياً ولوجستياً، لم تعد هذه الموبقات تثير لدى حاملها الشعاراتي أي استغراب من استخدامها أو من الولوغ في قاعها، وباتت الخيانة كمصطلح مجرد وجهات نظر يمكن المحاججة بأسبابها، وفي أفضل الحالات نقطة اختلاف تتم تسويتها لاحقاً!!
لسنا بوارد إنكار الحالة المستجدة التي أنتجت تفريطاً مريباً ومرعباً بالكثير من المحظورات، واقتضت الظروف أحياناً غضّ الطرف عمّا يجري تداوله تحت ستار من الاحجيات المريبة على أنها ظاهرة مؤقتة ناتجة عن غياب الرؤية الصحيحة جراء التشويش المتعمد، لذلك لم نتمكن من الاستمرار في الخلط على المستويات الشعبية بين ما يجري وما يتم التخطيط له في الغرف الاستخباراتية على المستوى الكوني، رغم الضخ الإعلامي والدعائي الذي لم تشهد عصور البشرية قديمها وحديثها مثيلاً له.
وكانت أولى الصيحات في مواجهته أن الصمت ليس حياداً، واستتبعتها بأن اللون الرمادي في القضايا الوطنية المصيرية هو من الألوان غير المعمول بها، ولا المسموح بتداولها، وتطورت إلى التعبير الصريح والمباشر باستحالة الجمع بين الحياد وما تتطلبه المسؤولية الوطنية في الأزمات، حيث بدت الرمادية أقرب إلى السوداوية، وفي بعضها أكثر تضليلاً، وأكثر ضرراً منها، باعتبارها استولدت مواقف وتيارات احتمت خلفها وشجعت على تناميها.
اليوم .. تبدو كل الرماديات بألوانها وتدرج تموضعها داخل لوحة الوطن أمام مرآة الحقيقة، بدءاً من الرمادية الشخصية إلى الرمادية الوطنية مروراً بكل المحظورات التي تغلفت بعباءتها، أو تلك التي تلطت خلفها للغرف مما هو سائد، جميعها دون استثناء موضع شبهة تلازمها القرينة من داخلها، فباتت مكشوفة وواضحة في ملابساتها، وما تثير من تساؤلات تفتح البوابات على متاهات مريبة تضع كل الاختلاطات السابقة وقنوات تسويقها أمام المجهر الوطني الحقيقي الذي لا يرضى تحت أي مسمى القبول بذلك الخلط.
على هذه القاعدة التي تحسم الأمور من جذرها، بات من الطبيعي أن كل ما يترتب عليها هو باطل في السياسة ومرفوض في التداول، وبالتالي ما سبقها من تجاوز، وما ترتب عليه سابقاً وحالياً ولاحقاً هو أكثر من الباطل، بل في التوصيف الدقيق بات مُجرّماً في العرف والقانون، كما هو محرم في الدين والأخلاق .. اجتماعياً وسياسياً.. شعبياً ورسمياً!!
a.ka667@yahoo.com