الملحق الثقافي:إلهام سلطان :
ريشةٌ سوريَّة، تلوِّنُ بهدبِ الشَّمس أنين الوجوه المتعبة، وترسم على ضفافها لون الفرح. ريشة الإنسان السوري القديم، الذي رسم ونقش الحياة على جدران الكهوف والمعابد والقصور، فأعانه ذلك على البقاء، وخلَّده عبر الأزمنة، ومازال ينسج حكايته على جدران الزمن، وفي صفحات التاريخ رسالة للإنسانية جمعاء.
بوحُ عاشقٍ، حمل الوطن في خافقيه صلاة، ورسم بوابته على جدران قلبه، وشرَّعها للريح والمدى.. وشم تراب هذا الوطن بين الهدب والعين، ولوَّن بياراته ووجوه المقهورين الذين أدمتهم الحرب، وهجَّرتهم وغرَّبتهم عن أهلهم وبيوتهم.
بريشته السمراء المجبولة برحيق بردى، استطاع الفنان السوري المغترب “سيف داوود” أن يلًون تفاصيل لوحاته، التي رتّلها الضوء وصرخة الضباب.
بين توهُّج الأبيض وظلمة الأسود، وتفاصل الألوان الدافئة، كانت لوحاته قصيدة من الألم والأمل، وهما ما سرى في خطوط لوحاته وتفاصيلها التي رسمتها أنامله وعنونتها، رسالة الفن التي تقول للعالم أجمع، بأننا البقاء السرمدي. بقاء سورية اللوحة. الأمل الذي سيبقى يولد من رحم الألم.
هنا تكمن الحكاية الإنسانية.. حكاية “ترنيم” وهو اسم المعرض الذي أقامه المبدع الفنان الدكتور “داوود” في “غاليري مصطفى علي”. المعرض الذي ضمَّ 24 لوحة بأحجام مختلفة، مرسومة بالأكرليك، وملونة بالهمِّ الإنساني وأنين الروح، ووجع الحرب.
تتراقص ألوانه لتشكِّل سيمفونية وطن، تمازجت ألحانها بين أنين الأسود وصرخة الأحمر وبوح الأصفر، الذي يضمّخ مساحة القهر بالتصحر الروحي والنفسي، الذي سرى حتى في تفاصيل لوحته الخضراء.
تتناثر التكوينات على سطح لوحته، مردِّده صدى روحه، وراسمة شكل الحنين والوجع من هناك. من بلاد الضباب إلى أرض الشمس التي كانت ومازالت بوابة الجمال وفضاء النور، حيث انبثاق الفينيق من رماده، إلى فضاءِ أبديته.
في دمشق القديمة، وفي حارة من حاراتها المزنَّرة بحكايا التاريخ المعتّقة. في هذه الحارة، تفاصيل أرض ولدت على عتباتها بيارات العشق والجمال، ورويت قصص الحب على تعاريج جدرانها العتيقة.
القصص، التي لازال “غاليري مصطفى” يحتضنها بذاكرة الفن والضوء، ليُطلقها حين يسعى عشاقها لاستدعائها، ولو على شكلِ “ترنيم”.
إنه “ترنيم” الفنان المهندس “داوود” ابن مدينة القامشلي. التشكيلي الذي حمل لون الخضرة وشهقة الشمس وبهجة الفرح من حارات مدينته، وأطلقها ترسم طفولته الجميلة والراسخة على ضفاف العمر والفن.
بعد حصوله على الثانوية في أرض الفيحاء، تابع تحصيله العلمي، فكان “كتاب الضوء دمشق. أرض التاريخ والحضارة وحكاية الازل”. ضوء المدينة التي كونت ذاكرته الفنية ووسعت آفاقه، ورسمت مدارات إبداعه بشغفٍ بقي ورغم دراسته للهندسة، معلقاً بين الريشة والألوان.
هكذا انطلق، إلى أن تمكن من تركِ بصمة مميزة في عالم الفن، وبعد أن اختار أشخاصه ووجوه لوحاته من قاعِ المجتمع، ومن الناس الذين غربتهم الأقدار. انطلق وتمكّن من أن يكوّن لنفسه، مدرسة خاصه به، ترسم مسارها المميز في الحركة التشكيلية السورية.
رسم الحرب، القهر، الألم، الفقر، الغربة، الحنين، الفراق، وكلّ ما يلتمس ويلامس الإحساس الإنساني.
عاد إلى وطنه، بريشته المضيئة والمتعبة التي حمّلها وجع وطنه، ووثقّ بها معاناة شعبه، ومُطلقاً أكاليل الغار تنشدُ بفوحِ مجدها، ملحمة الخلود الباقية لتعزف نصرها.
إنه نشيد ريشته الذي جسّد في “ترنيم” حالات إنسانية – سورية، كتبتها أنامل الفن ولوّنتها جمالاً، رغم بشاعة الحرب والغربة، وما بينهما من اشتعالاتٍ روحية..
التاريخ: الثلاثاء15-12-2020
رقم العدد :1024