الملحق الثقافي:آنا عزيز الخضر :
المشهدية الفنية المتميزة التي تصور لنا الحياة كما هي، ترجعنا إلى ذواتنا بامتيازٍ، وكمرآة حقيقية قادرة على أن تشهِّدنا على أنفسنا. نراها عن بعد، ندرك تفاعلها مع الملمات، ونتحسَّس تأثيرها المؤذي وآليات كبحها الأليم لكل خطواتنا.. تجعلنا نراقب سلوكياتنا المعجونة بوجع الحياة، ونتلمس خيباتنا وفداحة جرأتها. نتحسَّر معها على طموحاتنا المكسورة، ونتفحص أمنياتنا الخجولة، لنراجع بعدها أنفسنا سعياً لمحاكمتها بناءً على مقترحاتها.
إنها المشهدية التي تقارب واقعنا، محاولة الخروج من كل تلك الأوجاع، وهي تستند على رؤى إنسانية وفنية ناضجة.. رؤى المسرح الجاد الذي أبدعته خبرات وثقافة ومعرفة ضليعة، قادرة على أن تقدم ما هو لصالح الناس.
حتماً، المسرح هو القادر على صنع كل ذلك، وقد ترجم كل تلك المعطيات عبر العرض المسرحي “سيلفي” الذي هو من تأليف وإخراج “وليد العاقل”.
حول تفاصيل العرض وعوالمه وخطوات خروجه إلى النور، حدّثنا الكاتب “وليد العاقل” مدير المسرح الجامعي في السويداء قائلاً عن كلِّ ذلك:
“سيلفي” هو باكورة أعمالي مع الاتحاد الوطني لطلبة سورية، بعد تكليفي مديراً للمسرح الجامعي بالسويداء.
من هنا بدأ التحدي الأول، فالجمهور المستهدف هو جيل الطلبة الجامعيين، وكذلك المشاركون في العرض هم أبناء هذا الجيل، وبالتالي هم أبناء جيل الأزمة الذين عانوا ما عانوه على مدى سنوات الحرب على بلدنا سورية.
كان اللافت في التمارين الأولى للورشة المسرحية، حالة الإحباط العامة عند هذا الجيل، ومن كل شيء، والجواب الوحيد الذي يصلح لكل الأسئلة التي طرحتها، أن الجميع يحلم بجواز سفرٍ للهجرة حيث المجهول.
من هنا، بدأت فكرة نص مسرحية “سيلفي” تدور برأسي، فاللجوء لنصٍّ عالمي مكتوب وجاهز، لم يكن ليلبي طموح الممثلين الذي أتعامل معهم ولا الجيل المستهدف، وكان أن جاءت فكرة “سيلفي” لتكون الصورة التي تعبِّر عن هذا الواقع الموجع اجتماعياً واقتصادياً وفكرياً.
في العرض فرقة مسرحية تقوم ببروفات أخيرة على عرض مسرحي يتناول، مجموعة من مقالات صحفية للكاتب الكبير “محمد الماغوط”. أعدَّتها كاتبة مسرحية لزوجها المخرج المسرحي.
في هذا الجزء من العرض، تقوم مجموعة الممثلين بعرض محاكمة مفترضة لفكر وقلم “الماغوط” الساخط على كل ما حوله. المحاكمة تبدأ من وجهة فكرية، ثم تتطور لمحاكمة تصل ذروتها، إلى محاكمة دينية مشوهة ومفبركة.
رجل الدين: لقد حقَّر قلمك أيها الشاعر الذات الإنسانية التي خلقها الله بأحسن تقويم، عندما تركت مواطنك يتحدث بمعاناته لكلب.
الشاعر: لم أجد من يسمعني يا سيدي، فالمثقفون بلعوا ألسنتهم، والفنانون مشغولون بباب الحارة، والمدرسون بالدروس الخصوصية، والناس مشغولون بالتحدث عن بعضهم وليس مع بعضهم “.
لقد حاول التحقيق إدانة المثقف ولكن كلمة المثقف كانت الأقوى والأمضى. فكيف إذا كانت كلمات الكبير “محمد الماغوط”.
لكن، يتحول الخلاف الشخصي والحياتي بين الزوجين “الكاتبة والمخرج” إلى خلافٍ فكري حول طريقة معالجة الحلول الإخراجية للنص، وهو خلاف لا يلبث أن يتطور ويتصاعد ليودي بالعرض المفترض إلى تخلي المخرج والكاتبة عن متابعة البروفات، وهنا يجد هؤلاء الشباب أنفسهم على خشبة باردة بلا نص ولا مخرج ولا عرض، فيصابون بالإحباط من انكسار أحلامهم التي هربوا ليتنفسوها في المسرح، وتنقسم مجموعة الممثلين بين من استسلم لفكرة اليأس والإحباط وأخذ بجمع أشيائه لمغادرة الخشبة الصغيرة إلى الخشبة الأكبر “الحياة”، وبين حائر لا يعرف ماذا يفعل، وبين مجموعة ترى أنها قادرة على متابعة الطريق، وتحقيق الحلم بتقديم عرض مسرحي.
الجميع فوق الخشبة وجدوا أنفسهم على مفترق طرقٍ وخياراتٍ صعبة، ويدور بينهم حوار حياتي يحمل الكثير من المتناقضات في الآراء، وكلٌّ يتمسك بحجته التي تبدو مقنعة، إلى أن يصل الجميع إلى فكرة أن الهروب ليس حلاً والحياد حلٌّ أسوأ، وأن الجميع محكوم بالأمل من موقعه كمتعلم ومثقف، لتبدأ بذور الأفكار تتوالد من جديد بعد أن تكاتف الجميع على إرادة المتابعة للوصول إلى عرضٍ لائق يشبههم ويعبر عن واقعهم المعاش.
– نحن الجيل الذي صمد وحارب، ونزل للساحات، ورفع آلاف الرايات.
– نحن من دخل شذَّاذ الأرض مدنهم.. تعبوا من حربهم معنا، ولم نتعب رغم تفاقم إجرامهم.
– نحن الذين صمَّت آذاننا أصوات التفجيرات، وتزعزعت بيوتنا من مرور القذائف فوقها.
– نحن من أسعف الجرحى، وجمع أشلاء القتلى وحمل النعوش، وشيّع الشهداء بالدموع.
– نحن فقراء الوطن الصابرون والمصابرون، والمدافعون عن هذا التراب.. لنا الحق بن نرفع أيدينا ونضرب بها على الطاولة لنقول: هكذا نريد لبلدنا سورية أن تكون”..
قال كلّ هذا، مفنِّداً كل ما يمكن أن يخطر ببالِ من يسأل عن “سيلفي”. مع ذلك، كان لابدَّ لنا من سؤاله:
– هو عرضك الأخير. ما الجديد الذي حمله وأنت دائم العطاء والتجدد؟.
— الجديد بالعرض، هو التعامل مع هذه الشريحة من الطلبة الذين يملكون أحلاماً كبيرة أرادوا التعبير عنها فوق الخشبة. لا شك أن أفكار النص كانت أكبر منهم ومنّي، فالكلمة عن “الماغوط” أكثر اتساعاً وشمولاً من أيّ مشهد يعبر عنها. لقد تعبت كثيراً لأصل مع مجموعة العرض والممثلين، للشعور بالمسؤولية الكبيرة للتحدي الأكبر الذي يخوضونه مع هكذا نص، ولا أنكر أنني وقفت حائراً في أكثر من مفصلٍ وفكرت أن ألغي العرض واختار نصاً آخر يكون على مقاس المجموعة، إلا أن إصرار الممثلين واجتهادهم في البحث عن مرادفات حسّية وبصرية لشخصياتهم، أوصل العرض وباللحظات الأخيرة للخشبة، بل نال استحسان الجمهور الحاضر بعد أن اكتشف بين طياته، مرآة تعبر عن واقعه الحياتي المعاش، وأعاد لهم فكرة المسرح السياسي الذي أحبّه في مسرح “الماغوط” والكبير “دريد لحام”، وأن خلف الكوميديا التي استجرَّها العرض من مشاعره، وجعٌ لا بدّ من الوقوف عنده، وهذا ما جاء على لسان الكثيرين ممن تركوا انطباعهم عن العرض، وبأنه كان وجبة دسمة وموجوعة ولكنها جاءت في ملعقة سكر، وهو من وجهة نظري ما يحقق المتعة والفائدة، وهما الشرط الأساسي لأي عرض مسرحي.
ينتهي الحوار الذي باتت فيه “سيلفي” واضحة بكل ما تناولته وأرادت قوله من خلال عرضها. مع ذلك، نختم بسؤال “العاقل”:
– كيف ترجمت رؤيتك الفكرية، المقرونة مع الحلول الإخراجية، وصولاً إلى ما جعل العمل يحقق المتعة التي تحدثت عنها.
— لقد حاولت جاهداً التخفيف من وطأة المباشرة في خطاب النص المأخوذ أساساً عن مقالات صحفية، وببحثي عن معادل مشهدي بصري وفني، وهو ما استحق عليه العرض جائزة “أفضل سينوغرافيا عرض مسرحي” من خلال الإضاءة التي تمت دراستها بعناية فائقة. أيضاً، استطعت أن أحرك قطعة ديكور واحده كحلٍّ مكاني متغيٍّر لأكثر من مشهد، وبمساعدة بعض القضبان الحديدية التي سجنت خلفها المجموعة كاملة طوال فترة العرض حتى المشهد الختامي، وعندما يرمون بالقضبان جميعها خلفهم ويطرحون مقولة العرض متحررين من كل الأعباء السياسية والاجتماعية التي تقف بوجه تحديهم لأنفسهم أولاً، وللظرف القاسي الذي يعانون منه. هنا ينشدون معاً، وبصوت مخنوق:
“مقهورين يا بلدنا.. قالوا عنا مقهورين / محبطين يا بلدنا.. برا وجوّه مُحبطين
نحنا مين يا بلدنا.. نحنا شويّة موجوعين/ مش رايحين يا بلدنا.. إنتِ النا.. وبقيانين”.
بالتأكيد التجربة مستمرة، فقد استطعت تشكيل بذرة فرقه مسرحية واعدة، ستعيد للمسرح الجامعي ألقه الذي كان الرافد الأساسي للفن المسرحي بسورية في السبعينيات والثمانينات، حيث انطلق الكثير من نجومنا الكبار، ولا يسعني إلا أن أتقدّم بالشكر الجزيل لفرع الاتحاد الوطني لطلبة سورية في السويداء، وللمكتب التنفيذي في المنظمة، وبسبب رعايتهم وإصرارهم على تقديم كل ما يلزم لإعادة الألق إلى المسرح الجامعي، ولفتح مجالات أوسع وأرحب لتعبير الشباب عن آرائهم وتطلعاتهم الفكرية والفنية، لأنهم الشريحة الأوسع والأهم والتي يعوّل عليها بناء سورية الوطن”.
التاريخ: الثلاثاء15-12-2020
رقم العدد :1024