الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
تلبية لنزعة الهيمنة والتسلط والتشبث بكرسي الرئاسة والتفرد بالسلطة، واستجابة لعقده الفرويدية المستعصية والمتعاظمة حوّل الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب عاصمة بلاده واشنطن بالأمس إلى مسرح للفوضى والعنف اللذين لطالما نقلتهما الولايات المتحدة الأميركية إلى عواصم ومدن دول أخرى غير خاضعة لمشيئتها ونفوذها.
فبعد أسابيع من حملات التحريض والتجييش التي مارسها ترامب داخل معسكر المؤيدين له احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي خسرها أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن، وفي اللحظة التي اقترب فيها أعضاء الكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ من المصادقة على نتيجة الانتخابات استعداداً لإعلان بايدن رئيساً جديدا للولايات المتحدة وإنهاء حقبة ترامب المثيرة للجدل، انجلى المشهد الأميركي عن حالة “غير مسبوقة” من الفوضى والعنف وإطلاق النار والغاز المسيل للدموع وتحطيم النوافذ والحواجز والأسوار وصولاً إلى صدامات ومعارك وإصابات ودماء داخل مبنى الكابيتول هيل (قلعة الديمقراطية الأميركية المزعومة) وسط تغريدات متتالية من قبل ترامب تحث الآلاف من مؤيديه المحتجين على الزحف إلى مبنى الكونغرس وقلب الطاولة فوق رأس مشرعي الولايات المتحدة، في مشهد غير مألوف بالنسبة للأميركيين أو لمن يتغنون بالديمقراطية الأميركية حول العالم، ما وضع ممثلي الشعب الأميركي في خطر محدق اضطرهم للفرار إلى منطقة أكثر أمنا على حياتهم.
وتوالت بعدها ردود الأفعال المعبرة عن الصدمة والاستغراب داخل وخارج الولايات المتحدة، الأمر الذي وضع مصير الولايات المتحدة ومصير ديمقراطيتها المزعومة لساعات طويلة على المحك، ما اضطر الرئيس المنتخب للظهور في خطاب مختصر عبّر فيه عن الصدمة والحزن لما جرى والخجل من الصورة التي ظهرت عليها بلاده أمام العالم، مطالباً ترامب بتوجيه خطاب عبر التلفزيون الوطني لمؤيديه من أجل الانسحاب من مبنى الكونغرس، ليظهر الأخير بعده بقليل مرتبكاً حيث وجه خطابا قصيراً على التويتر دعا فيه أنصاره للعودة إلى منازلهم مكرراً اتهاماته بأن الانتخابات مزورة وقد سرقت منه مؤكداً أنه الفائز فيها، في حين اعتبر أعضاء في الكونغرس أن دعوته لوقف الاحتجاجات جاءت متأخرة.
في غضون ذلك قالت شبكة “سي بي إس” إن عدداً من أعضاء الحكومة الأمريكية يبحثون إمكانية استخدام التعديل رقم 25 في الدستور لعزل ترامب من السلطة، وبحسب الشبكة فإن النقاشات جارية بين عدد من أعضاء حكومة ترامب، مشيرة إلى أن استخدام هذا التعديل سيسمح بإقالة ترامب من منصبه ونقل صلاحياته إلى نائبه مايك بنس، وفي وقت سابق طالبت كاثرين كلارك، مساعدة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، بإقالة ترامب وعزله قبل انتهاء ولايته رسمياً، واتهمت كلارك ترامب بخيانة البلاد والدستور، داعية إلى ضرورة عزله من منصبه ومنعه من تعريض الولايات المتحدة لمزيد من الخطر.
وكانت ليلة الأربعاء الدامية في واشنطن قد شهدت سقوط أربع ضحايا بأحداث العنف التي شهدها مبنى الكابيتول، حيث اقتحم أنصار ترامب مقر الكونغرس، وقالت مصادر في شرطة واشنطن، إن من بين الضحايا امرأة قتلت بطلق ناري أثناء الفوضى التي عمت مبنى الكابيتول، إضافة إلى ثلاثة آخرين لم تتضح بعد الظروف التي قتلوا فيها، كما اعتقلت الشرطة التي طلبت تعزيزات من ولايات أخرى لمواجهة الموقف 52 شخصاً من المحتجين.
ووفقا لوسائل إعلام أميركية، فإن جماعة “براود بويز” هي التي قادت المتظاهرين لاقتحام الكونغرس، حيث استغلت الجماعة كلام ترامب واتخذته شعارا لها، وكان الأخير قد حث أنصاره، للتوجه صوب مبنى الكونغرس للتعبير عن غضبهم بشأن عملية التصويت والضغط على المسؤولين المنتخبين لرفض النتائج، وحثهم على “القتال”.
وضاعفت هذه الكلمات من مخاوف الأميركيين، الذين اعتبروه أمر عمليات من الرئيس لـ”براود بويز” لاقتحام مبنى الكونغرس، وهو مشهد لم تره الولايات المتحدة منذ 200 عام. والمعروف عن جماعة “براود بويز” أنها نشأت عام 2016، وهم يمجدون العرق الأبيض ويتخذون من الفاشية الجديدة سياسة لهم وألد أعدائهم هم المهاجرون واليساريون المتطرفون، ويتخذ عناصر الجماعة من العنف السياسي ولغة الكراهية نهجا لهم في مواجهة خصومهم، حيث سجلت الشوارع الأميركية حوادث كثيرة قاموا بها وحظرت وسائل التواصل حسابات حركتهم مرارا.
وعناصر هذه الجماعة يؤيدون ترامب بشكل جنوني ويرون بأنه يدافع عن معتقداتهم وأفكارهم وشعاراتهم التي تقول “عودة أميركا العظمى. أغلق الحدود. أعطي الجميع سلاحا. مجدوا رواد الأعمال. والمرأة دورها أن تكون ربة منزل”، والكثير من عناصر “براود بويز” هم سجناء سابقون أو في سجلهم قضايا عنف وغيرها، إلا أنها تتوسع بشكل كبير وتندمج معها جماعات يمينية متطرفة تشبه توجهاتها.
وبكل المقاييس وبغض النظر عما ستؤول إليه الأمور في الساعات والأيام التي تسبق العشرين من كانون الثاني الجاري وهو موعد تنصيب بايدن رئيساً، فقد كشف المشهد الذي ظهرت عليه واشنطن بالأمس هشاشة النظام الأمريكي وهشاشة الديمقراطية في هذه البلاد، إذ يستطيع شخص مثل ترامب بالاعتماد على مرتزقة وخارجين على القانون أن ينقلب بكل بساطة على الدستور الأميركي وأن يرفض نتائج الانتخابات وأن يجيش الشارع، بحيث تتحول عاصمة مثل واشنطن كأي مدينة أخرى عرضة للعنف والفوضى والتمرد والقتل والتخريب.
وهذا ما يبرهن مرة أخرى على تورط الولايات المتحدة بمعظم أحداث العنف والتمرد التي شهدتها دول كثيرة في العقود الماضية، فمن لا يحترم أو يقيم وزناً للديمقراطية وصناديق الاقتراع في بلاده فمن أين له أن يحترم أو يقيم وزناً لحقوق وحرية الشعوب في أي مكان في العالم، وقد آن الأوان للتوقف عن النظر إلى أميركا كمثال يحتذى في مسائل الديمقراطية والاحتجاجات السلمية واحترام المؤسسات الدستورية، فما رأيناه بالأمس في شوارع واشنطن “المتحضرة” لا يختلف كثيراً عما رأيناه في مناطق أخرى أقل تحضراً، فمثل هذه الممارسات العنفية والتخريبية هي نهج أميركي متأصل تحاول واشنطن تعميمه لتحقيق مصالحها الاستعمارية والهيمنة على القرار العالمي.