الثورة- منذرعيد
قلة هي الدول والأشخاص ممن يملك قدرة فن الوساطة، وميزة الدبلوماسية الهادئة، وتحويل الواقع إلى ممكن، رغم استحالة ذلك من خلال الشكل.. سلطنة عمان إحدى أولئك القلة، فتاريخها حافل بمواقف الوساطة، لتهدئة النزاعات بين دول المنطقة، إذ يقول البروفيسور مارك جاي أورايلي، أستاذ التاريخ في جامعة هايدلبرغ بولاية أوهايو الأميركية، بمقال نشرته وسائل إعلام إيرانية: “عُمان تتقن فن الدبلوماسية الهادئة، وتفخر بذلك، لقد اختُبرت قدرتها على هذا النهج مراراً، ولا تزال تحافظ على قنوات تواصل فعالة حتى مع أطراف في قلب النزاع”.
الدور اللافت للدبلوماسية العمانية في خوض غمار وساطات سياسية سابقة ناجحة، جعلها مكان ثقة لكل من الولايات المتحدة الأميركية وإيران للبدء بأولى جولات التفاوض غير المباشر، والتي انتهت بالأمس إلى كسر حدة التصعيد السياسي الذي سبق المحادثات بين واشنطن وطهران، حيث ذكر البيت الأبيض في بيان أن المحادثات كانت “إيجابية وبناءة للغاية”، وهو ذات الأمر ما أكده الجانب الإيراني على لسان وزير الخارجية عباس عراقجي بقوله للتلفزيون الإيراني: “المحادثات وهي الأولى بين إيران وإدارة ترامب، بما في ذلك ولاية ترامب الأولى بين عامي 2017 و2021، جرت في أجواء بناءة وهادئة وإيجابية”.
بعيداً عن الغوص في التفاصيل والتحليل بما جرى خلال المحادثات، وآفاقها المستقبلية، وبالعودة إلى الحديث عن تاريخ مسقط في الوساطة بين الدول في المنطقة، فقد رسّخ السلطان قابوس بن سعيد على مدى العقود الخمسة من حكمه بين 1970 و2020، الدبلوماسيّة وصناعة السلام والحياد الجيوسياسي كركائز أساسيّة للهويّة العُمانيّة.
ومنذ تسلّم السلطان هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد مقاليد الحكم قبل حوالي خمسة أعوام، واصل جهود سلفه للحفاظ على دور السلطنة كميسّر للحوار وجسرٍ دبلوماسي موثوق بين الخصوم في الشرق الأوسط.
علاقات السلطة الجيدة مع إيران، إضافة إلى كونها عضواً في مجلس التعاون الخليجي، مكنها من لعب دور ناجح في سلسلة من المصالحات وتقريب وجهات النظر بين الأولى، وبعض الدول في الثانية، فلا يمكن نكران دور مسقط في اتّفاق إعادة التطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران في آذار 2023، رغم تصدر الصين لمشهد الوساطة بين الطرفين، وعلى الخطا ذاتها أجرى السلطان هيثم في عام 2023 محادثات مع القادة في البحرين حول العلاقات مع إيران، وعقد الدبلوماسيّون البحرينيون والإيرانيّون منذ ذلك الحين محادثات لاحقة في السفارة الإيرانية في مسقط بشأن إعادة التطبيع، بعد قطيعة في العلاقة بين البلدين منذ العام 2016، والسياسة ذاتها انتهجتها السلطنة إزاء اليمن، واحتضانها مفاوضات بين الحكومة اليمنية، وحركة أنصار الله، في 2024 .
مع تأكيد سلطنة عُمان دائماً إيمانها المطلق بأن العلاقات الدولية يجب أن تُبنى على أسس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ونتيجة تمتعها بالتقدير والثقة على الساحة الدولية، وحرصها على انتهاج مبدأ الحوار في حل القضايا الإقليمية، كانت مسقط مثلاً للدبلوماسية المتزنة، الأمر الذي عكسته ردود الفعل العربية والدولية في ختام جلسة المحادثات الإيرانية- الأميركية، حيث قالت صحيفة “عمان”: كشفت الإشادات الدولية والإقليمية عن تأييد واسع للدور العماني في هذه المفاوضات، ليس فقط باعتباره وسيطاً في محادثات سياسية شديدة الحساسية، ولكن باعتبار سلطنة عُمان فاعلاً موثوقاً ورصيناً في هندسة الحلول وبناء الجسور في الإقليم، وأن سلطنة عُمان، بدبلوماسيتها الهادئة، تثبت مرة أخرى أنها بيت الثقة ومركز التوازن في زمن تتزاحم فيه الأزمات وتقل فيه مساحات التفاهم.