الملحق الثقافي:إعداد: نذير جعفر:
حسام خضور: قاص وروائي سوري
الحياةُ جسد
أدخلتْ إبرة ثخينة في ظاهر يدي اليسرى، أعلى الزاوية بين إبهامي وسبابتي، بيدين شعرت بأنهما محايدتان.. في الواقع لم أكن قادراً على التمييز.. كنت أتنفّس بصعوبة، أشبه بجثّةٍ مني جسداً يقاوم فيروساً قاتلاً.
ربطتني إلى سِيْرُوم مُعلَّق على حامل بجانب سريري سريعاً.. أخذت عبوة من دمي.. قاست ضغطي وحرارتي وأكسجتي، ثم نظرت إليّ وقالت: “هذا رقم هاتفي، كلّمني إذا احتجت شيئاً”. سوَّت لي السرير على النحو الذي طلبت.
ذهبتْ، وأخلدتُ للنوم.
عندما صحوت وجدتني مبللاً بعرقي.. أحسست بالبرودة، وأنني بحاجة إلى الممرضة لتنزع أنبوب السيروم من يدي، ريثما أبدّل ثيابي الداخلية المبلّلة..هاتفتُها.. جاءت بسرعة. نظرتْ إليّ متأمّلة وجهي، بدت نظرتها محايدة، غير قلقة، بل واثقة.
قلت: تعرقت كثيراً. ثيابي الداخلية “مَيْ”، أريد أن أبدلها.
دنت مني، نزعت أنبوب السيروم، وقالت: نادني عندما تنتهي.
شكرتها، وهي تخرج، وتغلق الباب خلفها.
غيّرت ملابسي الداخلية، وعدت إلى سريري.. وضعت أنبوب الأكسجين في أنفي، وهاتفتها أن تأتي. جاءت، وصلت أنبوب السيروم، وأعطتني حقنة أمل: “وضعك جيد.. التعرّق مؤشرٌ إيجابي.. ليتك تستطيع أن تنام”.. نمت..
كنت قد أفقت لتوّي، ورفعت رأسي، عندما فتحتْ الباب.
– صباح الخير.. لم أسمع صوتي أنني رددت.. كنت خائر القوى.
قاست ضغطي، كان عالياً.. وقاست نسبة السكر في دمي، كان في الحدود الطبيعية في مثل حالي.. أعطتني حقنتين، إحداهما في وريدي، والأخرى في ظاهر عضلة زندي الأيمن.. خرجت، ثم عادت بعد قليل.. جلبت إليَّ كأس شاي وسندويشة لبنة.. رأت أنني بحاجة إلى ذلك.. شربت قليلاً من الشاي، وأكلت لقيمات عدّة.
– ضروري تاكل.
-ما عندي شهية.
– أنت في مشفى، شغّل إرادتك.. الأكل ضروري.. أنت بحاجة إلى طاقة كبيرة لتقاوم المرض وتتعافى. الدواء، وحده، لا يكفي.
أجبرتْ نفسي على الأكل؛ شربت الشاي، ولم أُكمِل السندويشة.
شعرت بأنني دخلت في عزلةٍ إلزامية، وأن عالمي صار محدوداً، وأنني مقيّد بأنبوب السيروم إلى حاملٍ معدني، تراءى لي مثل عمود حديدي راسخ، وأنبوب السيروم قيداً رهيباً.
لم يشغل الآخرون من وقتي إلا قليلاً. تمنيت أن يكون حضورهم أكثر. الآخر طمأنينة فقدتها، وعزَّ عليّ أن أجدها في المشفى. النوم لم يكن مهرباً على الإطلاق.. ربما لم أنم، بل دخلت في عالمِ أشباح، زرع في نفسي رهاب النوم.
ما بقي في ذهني لا يشبه أي شيء.. صور شبحية متنافرة، لا أستطيع أن أحدد ملامح أيٍّ منها، تظهر وتمضي، لا أعرف إن خفت منها. لم أكن أملك جسدي.. احتجت إلى نحو أسبوع، بعد أن عاد إليّ جسدي، لأعرف أنني وقعت أسير تلك الأشباح التي استوطنت مخيلتي، وأخذت تكبر وتثير مخاوفي.
حرقت الحمى أحلامي وأحالتها إلى مجرّد هلوسات: أشياءٌ ذات قوام صوتي غير مسموع، وصوري غير محدّد.
لا أعرف متى رأت مخيلتي كائناً مثل برميلٍ أسود، مجرّد شكل برميل له لون القار النقي تحت أشعة الشمس، ينكش الأرض. هو الوحيد الذي ظلَّ ماثلاً في مخيلتي من دون أن تغادرني الهلوسات، التي لم أعرف لها مستقراً.
لم يغادرني شعورٌ رهيب أنني قد أموت، وأن ثمّة أشياء لم أنجزها بعد.. شعور بالخسران آلمني.. هل تفعلها الأقدار، ويخطفني الموت ولمّا أُنْهِ أعمالي؟..
الأقدار غاشمة؛ أعرفها. ثمّة محطات في حياتي سخرت مني بفظاظة. هل ينتصر عليّ فيروس لا يُرى بالعين المجردة؟..
اللحظات التي يتساوى فيها الأمل واليأس هي الأصعب.. عشت تلك اللحظات دقائق وساعات وأياماً. أن تشعر أنك بانتظارِ موتٍ وشيك شيء رهيب، لكن عقلي تعامل ببرودٍ مع هذه الحال الفظيعة.
فكرت أنني لن أموت لأنني لم أُنْهِ رسالتي في الحياة، وأن لديّ عملاً يجب أن أنجزه، وأنني قادر على العيش سنوات كثيرة.
وكأنني سمعت قهقهة تسخر مني، وصوتاً جعلني أرتجف: “لم يمت أحد لم يكن لديه عمل تمنى لو أنجزه. فاتك القطار، يا رجل! عِ هذه الحقيقة الواقعية جداً جداً! كنت تمارس الحياة، وكأن الموت خرافة.”
ربما هذا صحيح.. أدرك أن الموت حقيقة؛ ومع هذا تجاهلتها، ولم أعبأ بها في مسار حياتي اليومية.. يبدو أن الحقائق الثابتة خارج حسابات الناس.. يستوي في ذلك من يشتري قبراً، ومن لا يفكر بالموت أبداً.
لقد ظل هاجس الموت قابعاً في رأسي؛ كأنه يفكك أوصالي، ويجمع روحي من جسدي.
تداعت روحي المعنوية بعد أيامٍ من الحرارة، أوهنتني وجعلتني غير قادر على فعل شيء.. كنت مجرّد كتلة لها هيئة جسد، تكاد لا تقوى على الحركة.. صرت أعرف حالي من الآخرين.. في تلك الأثناء، أنا لم أكن أنا. في الواقع كنت مجرد جسد ضعيف ترك أمره للطاقم الطبي وامتثل له..
مثلما لا يعرف المرء متى يمرض، لا يعرف متى يتعافى. تبرز مؤشرات في الحالتين. وكما شعرت بالمرض، شعرت بالتحسن في اليوم الثالث. في اليوم الرابع تناولت وجبتي كاملة، وعلقوا على ذلك بقولهم: “الأكل صحّة”.
في اليوم الخامس، قرر الأطباء أنني لست في خطر، وأنني أتعافى، ويمكنني أن أتابع العلاج في البيت.
تنازعتني رغبتان: الأولى أن أبقى في المشفى حتى أتعافى تماماً. لأول مرة شعرت بأن ثمة أمكنة أكثر أماناً من البيت. هي موحشة، وتقول لك بالفم الملآن إنك مريض، ومع هذا تعطيك شعوراً قوياً أنها الأكثر قدرة على علاجك. والثانية أن أعود إلى البيت، إلى المكان الذي ألفته، وجهزته ليكون مستراحي. دار في بالي، كثيرون يخرجون من المشافي أمواتاً. شعرت بالقوة وأنا أفكر بالأمر، وصرت أكثر ميلاً إلى البيت، بعد أن أضفت إلى أسبابي الكلفة المالية الباهظة في المشفى.
شعرت وأنا أدخل البيت برغبة في البكاء. هكذا “لا حزناً ولا فرحاً”؛ لكنني لم أحظَ بهذه النعمة. اعتكرت عيناي ولم تفيضا بمائهما. ربما بسبب أهلي. تمنيت في تلك اللحظات لو كنت وحيداً، وتسنّى لي أن أبكي وأصرخ وأناجي الكون بصوتٍ عالٍ. ليتني استطعت؛ لكنني استسلمت لتعليمات أهلي، كما استسلمت في المشفى للطاقم الطبي – ليس للمريض خيار إلا أن يستسلم رغبة في السلامة.
موسيقا جنائزية لا تسمعها أذناي؛ لكنها صاخبة في رأسي، جعلتني أشعر أنني في جنازة كونية. لا أرى. لا أسمع. لكنني أشعر كما لو أنني أرى وأسمع. كأنني جزءٌ من عالمٍ آخر. كأنني لست أنا. عندما يمرض الجسد تتلاشى أناه.
من بعيد، سلموا، بلا ملامح.
من بعيد، هنّؤوني بالسلامة، وشيءٌ من خوفٍ يرتسم على وجههم.
من بعيد، عبَّروا عن مشاعرهم الطيبة، كأنهم في مأتمٍ يستعجلون المغادرة.
من بعيد، رددت تحيتهم، وسلّمت عليهم، وشكرتهم، وتمنيت لهم دوام الصحة والعافية.
وبعيداً منهم، شعرت بغصة أنني لم أرتقِ إلى مصاف الأصحاء. لست أي مريض يتعافى. مرضي قاتل. كاد يقتلني. ربما أحمل فيروساتي معي. مجرد ذكر اسم الفيروس يثير الهلع، فكيف إذا وُجِد من يحمله؟
شعور صعب أن تُنبَذ. متى أتخلص من فيروساتي؟ أشعر أنني طبيعي. استحْمَمْتُ مرات عديدة، ونتائج التحليل الأخيرة تؤكد أنني تعافيت تماماً. لكن ذلك ليس كافياً لطمأنة الناس.
سوَّغت لزملائي خوفهم أني ما أزال أحمل بقايا فيروس قاتل. كان هذا واضحاً في نصائحهم لي من مسافة أمان مفترضة بيننا: “بدك تنتبه. هذا فيروس رهيب. يتحوّل باستمرار، ويكمن حتى إذا وجد فرصة ملائمة هاجم ضحيّته”.
هل سأفعل الشيء نفسه، مثلهم، لو “كَورَن” أحدهم؟ ربما، بل أكيد، الصحة أولاً.
حسن حميد: روائي فلسطيني
مديح العزلة !!
آه، من العزلة، ما أشدّ وطأتها، وما أكثر وقتها!.. عزلة للأفراد وللشوارع والأحياء والقرى والمدن، وانضباطٌ غير عادي ارتطم به كلُّ من له روح، وكلُّ من له حيثيات اجتماعية، وكلُّ صاحب سؤال وحلم، فلا شيء تفلّت من هذه العزلة سوى الخوف الذي راح يجول طليقاً في الأمكنة والأنحاء والنفوس، وما من شيءٍ راح يتكرّر بكثرةٍ في الأحاديث والتأملات، على شكلِ سؤالٍ ثقيل موجع، سوى قولة الناس: ما العمل، و”كوفيد 19” يتصيّد الناس، وبأرقام مخيفة، حتى في داخل المشافي التي هي عنوان العافية وجهتها، لأنه طال الطيور البيض، أطباءَ وممرضاتٍ، من دون أي تَهيُّب أو حياء!..
هذه العزلة الموجعة عشتها طوال شهور، ولم يكن لي فيها سوى الأخبار الأليمة، والأرقام الرَّاعبة عن عدد الراحلين الذين ارتطموا فجأة، لسبب أو آخر، بـ “كوفيد 19”، وقد ذكّرتني هذه العزلة: بأمرين اثنين، أولهما يتعلق بكتاب ثقيل في نوعيته وأهميته وحضوره، صدر في القرن الرابع عشر الميلادي عنوانه (الديكاميرون) للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313 ـ 1375) الذي يعدُّ من حيث الأهمية والمكانة كتاب (ألف ليلة وليلة) الإيطاليَّة، لأنَّه تحدث عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي عاشتها الممالك الإيطالية: البندقية، وفلورنسا، ونابولي.. إلخ، أي هو الكتاب الذي يشبه كتاب العرب الثقيل في نوعيته وأهميته، وحضوره الخالد (ألف ليلة وليلة) التي جلت لنا الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية أيام العباسيين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، هذا إن نظر القارئ أو الباحث بعمق إلى مهدوفية هذا الكتاب الكبير (ألف ليلة وليلة) وغاياته، أما إن اكتفى بالنظرة السطحية فهو قائل ـ لا بدّ كما قال ابن النديم (ت 995 هجرية): إنه كتاب غثٌّ بارد، خليع الأسلوب!.
هذا الكتاب (الديكاميرون) تذكرته لأن العزلة لفّتني وأحاطت بي، فما عدتُ قادراً على افتكاك نفسي منها، شأني في هذا شأن غيري، فقد تحدث الكتاب عن عزله البلاد الإيطالية في زمن جائحة مرضية تشبه جائحة (كوفيد 19)، هي جائحة مرض الطاعون التي أخذت الناس بالعشرات والمئات والألوف يومياً، بحيث أُلقيت جثث الموتى في الشوارع وتراكمت فوق بعضها بعضاً، وفُقدت التوابيت، أو انعدم وجودها، وإن وجدت، راح الأهالي يحشرون كل ثلاثة أموات، أو أكثر، في تابوتٍ واحد، والمقابر ما عادت تتّسع للميتين، وما عاد حفّارو القبور قادرين على حفر المزيد منها، لهذا أخذت الجثث إلى الأمكنة العامة، كالساحات والغابات والحقول، وأُحرقت فيها! وبات أهل البيت الواحد يفرّون من المصاب بمرض الطاعون، فلا أحد منهم يسقيه أو يطعمه أو يشرف على علاجه حين تظهر الدمامل في مناطق معينة من جسمه، لأنها تدل على أن ساعة رحيله اقتربت!.
هذا الكتاب، (الديكاميرون)، ذكّرتني به العزلة التي فرضتها جائحة (كوفيد 19)، مثلما ذكّرتني هذه العزلة بالأمر الثاني، وهو يتعلق بعزلة الشاعر والأديب الروسي ألكسندر بوشكين (1799 ـ 1837) الذي راح أهله يعاقبونه بعزلة تشبه السجن في مكتبة البيت مدة أيام، قضاها في قراءة الكتب، إذ ليس في المكتبة من أحد سواه، وبذلك حوّل وقت السجن المرذول/الميت إلى وقت ذهبي، حين راح ينهب الساعات قراءةً ومعرفةً!
هذان الأمران هما ما خطر ببالي في أثناء العزلة بعيداً عن الآخرين، خلال شيوع (كوفيد 19)، وما أثاره من مخاوفٍ جمة، أدّت إلى تعطيل فعالية كلّ شيء، في داخل البيوت والمؤسسات والمدن والقرى والدول أيضاً، حتى إن روح العطالة أصابت الموانئ البحرية والجوية ومعابر الحدود البرية بين البلدان والدول، ولذلك عشت وعزلتي مع أسرتي الصغيرة، فأمضيت الساعات بين الكتب والأوراق وعوامل التأمل ودنيا الأسئلة، وطويت طرق الاتصال والتلاقي مع الآخرين، ولم يبقَ لي من وسيلة للتواصل سوى ما أتاحته منابر عالم المعلوماتية والهواتف الأرضية، وحالي كانت هي حال الآخرين، ولعل أهم ما أعطتني إياه هذه العزلة المفروضة أنني مضيت إلى أمرٍ أساسي هو أن أجالس نفسي، وأتعرّف إليها بعد انهمامٍ كبير بالحياة ومتطلباتها، وبعد سعي محموم لتوطيد العلاقات، وتنقية الصورة الشخصية في مرايا الآخرين، والركض المتلاهث في شتى الدروب، والحضور في غير ساحة أو مكان بقولة أخرى: لقد اجتمعتُ في هذه العزلة بنفسي التي كانت منهوبةً من ألف جهة وجهة، فكان الوقت للمراجعة: مراجعة الأفعال والأقوال والصداقات وما ألّفته من كتب طوال أربعين سنة، كنت أدور خلالها مثل حجر الطاحون حول سؤال الإبداع، وحين مضى الشهران الأولان، وبعد أن جمعت ما كان لي وأبديته، وطرحت ما خسرته فعرفته، رميت نفسي وأعطيتها لأمرين اثنين هما: القراءة والكتابة!.
التاريخ: الثلاثاء9-11-2021
رقم العدد :1071