إضاءات – بقلم عبد الرحيم أحمد:
تعيش سلطات الاحتلال الإسرائيلي ومعها المستوطنون هذه الأيام حالة من التخبط والهلع بعد العمليات البطولية الفلسطينية الثلاث التي تم تنفيذها في الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” عام 1948 والتي تعتبرها سلطات “تل أبيب” أنها باتت خارج الصراع مع الفلسطينيين أو تم تحييدها على الأقل من المواجهة مع المقاومة الفلسطينية.
فحكومة الاحتلال كانت دائماً تعمل على عزل مناطق الـ 48 عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وتتخذ إجراءاتها لمنع تأثرها بالمقاومة وهبّاتها من الضفة والقطاع لاعتبارات شتّى، لكن العمليات الأخيرة أثبتت بكل بساطة أنّ الأراضي المحتلة عام 48 هي جزءٌ لا يتجزأ من الصراع وأنّ روح المقاومة متأصّلة فيها كما في كل أرجاء فلسطين، وهي في كثير من الأحيان مصدر إلهام للمقاومة الفلسطينية ومحرض لهبّات المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ما يفضح الهلع الإسرائيلي هو هذا الكم الهائل من المقالات والعناوين التي تتصدر وسائل إعلام العدو، إضافة إلى تصريحات مراكز الأبحاث والتحليل التي صدّرت عناوين من قبيل (“إسرائيل” تلفظ أنفاسها الأخيرة)، إذ تكشف تلك المقالات ما يدور في العقل الباطن للمستوطن الإسرائيلي الذي بدأ يعترف أن الكيان يواجه “أصعب شعب عرفه التاريخ” (الشعب الفلسطيني) وأنه لا حل للصراع إلا بالاعتراف بحقوقه وإنهاء الاحتلال.
فبالرغم من محاولة سلطات الاحتلال تهدئة مخاوف الإسرائيليين عبر عمليات المداهمة والاغتيال لشبان المقاومة في مناطق تعتبرها تلك السلطات مصدر الهجمات، وبالرغم من الترويج لمسارات تطبيعٍ واجتماعاتٍ وقممٍ هنا وهناك، تكشف بعض المقالات في إعلام العدو أن المستوطن الإسرائيلي بدأ يفكر بالعودة من حيث أتى، “يبدو أننا اجتزنا نقطة اللاعودة” يقول أحد كتاب الرأي في صحيفة هاآرتس.. “فلا طعم للحياة في هذه البلاد .. ويجب مغادرتها.. وإذا كان هناك جواز سفر أجنبي لدى كل “إسرائيلي” فقد انتهى الأمر.. يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس”.
حالة اليأس والإحباط هذه لدى الإسرائيليين ليست نتيجة العمليات البطولية الأخيرة التي نفذها شبان فلسطينيون ضد الاحتلال في بئر السبع والخضيرة وبني براك لوحدها، بل هي نتيجة تراكمية للمقاومة المستمرة منذ إنشاء الكيان المحتل على أرض فلسطين عام 1948، وهي حصيلة جولات من الحروب التي شنها كيان الاحتلال الإسرائيلي ضد قوى المقاومة وفشل في تحقيق أي نصر فيها، وهي اعتراف بقوة المقاومة ومحورها وتنامي روحها وفكرها وإرادتها وامتلاكها قدرات عسكرية نوعية كسرت شوكة المحتل وجمهوره.
والمستوطنون باتوا يدركون جيداً أنه ليس هناك من أمل باستمرار الاحتلال في ظل تشبّث الفلسطينيين بأرضهم وتجذّرهم فيها، وحان وقت الاعتراف بالكذبة الصهيونية الكبرى التي حملت الإسرائيليين إلى أرض فلسطين، وبأن “فلسطين أرض بلا شعب”، وبأن “سنوات الاحتلال ستكون قادرة على مسح الذاكرة الفلسطينية”، وما على الإسرائيليين سوى العودة إلى حيث أتوا والنظر من بعيد كيف تنهار وتغرق (إسرائيل).
اليوم يبدو أن المستوطنين الإسرائيليين يستوعبون الدرس، فسبعة عقود ونيف من احتلال فلسطين وتشريد مئات الآلاف من أبنائها في أربع جهات الأرض ووضع الآلاف من شبابها في المعتقلات، وفرض الحصار وجدران الفصل العنصري والأسلاك الشائكة حولهم لفرض الاستسلام عليهم ونسيان حقوقهم، يأتي جيلٌ بعد جيل يحمل في عروقه ودمه نهج المقاومة ونبضها، يواجه المحتل المدجج بأحدث أنواع السلاح، بالسكين والبندقية ويحفر بملعقة الطعام أنفاقاً للحرية والحياة، ويصنع تحت الحصار والرمال صواريخ دقيقة وبعيدة المدى حولت القباب الحديدية الإسرائيلية إلى كرتون ممزق.
هروب الحكومة الإسرائيلية إلى سياسة حرف بوصلة الصراع عبر أوهام التطبيع و”قمم هزيلة” في النقب وغيرها، لن تنفع في تهدئة خوف وهلع جمهور المستوطنين الذين باتوا يرون الواقع بدقة أكثر من حكومتهم، ومحاولاتها إخماد نيران المقاومة تصب الزيت على النار، ولن تجدي معها أية إجراءات أمنية أو عسكرية، سوى إنهاء الاحتلال والاعتراف بالحقوق، فالجبهات الأربع أو الخمس التي تتحدث الاستخبارات الإسرائيلية عن المواجهة الحتمية فيها، هي حقيقية وجاهزة ومستعدة أكثر مما ترصده أو تتوقعه تلك الاستخبارات.