الملحق الثقافي – دلال إبراهيم:
هل يمكن للكتابة إحداث ثغرة في التغيير؟ سؤال طرحته صحيفة لو فيغارو الفرنسية على الكاتب الإيطالي صاحب (اسم الوردة) أمبرتو إيكو في أحد حواراتها التي أجرتها معه منذ بضعة أعوام، وكان مناسبة اللقاء هو إصداره كتابين مدهشين: الأول في نظرية الترجمة بعنوان (قل نفس الشيء تقريباً) بينما ينتمي الثاني لتاريخ التمثلات الذهنية والأفكار وهو بعنوان (تاريخ الدمامة) والذي جاء في أعقاب النجاح الذي حققه كتابه (تاريخ الجمال) .وتطرق الحوار حول قضايا تمس التطور التقني التكنولوجي المتسارع في جميع مناحي الحياة، وأثر هذا التطور على المعرفة واللغة والتاريخ والأدب والسياسة والعلاقات الإنسانية في مجراها العام . وفي رده على السؤال أجاب: «لا يمكن للكتابة أبداً أن تًغير الحاضر، بل تغير المستقبل فقط. تقرؤون كتاباً، ويمكن أن يؤثر فيكم بشكل عميق. وببطء تبدؤون بتغيير طريقة تفكيركم، شخصيتكم، وغداً أو بعد غد تبدؤون بالتصرف بشكل مختلف. في كل مرة نسأل فيها المثقف عن إيجاد حل لمشكلات العالم نرتكب خطأ. «ثمة مسألتان تطرق لهما امبرتو إيكو في جوابه السابق لهما علاقة بالكتابة، ولو اختلف مسار كل واحدة منهما عن الأخرى . المسألة الأولى هو ما يخص الكتابة ضمن مفهوم التغيير، والأخرى هي مسألة علاقتها مع المثقف إذا ما أختبر رأيه أمام مشكلات العالم. وقبل الحديث عن هاتين المسألتين بشكل مباشر، يجدر بنا الإشارة إلى نقطة مهمة ضمن هذا الإطار وهي انتقال مفهوم الكتابة من وسيط تواصلي ليس في يده سوى أداتين القلم والورقة فقط، إلى وسيط آخر كما هو معروف من خلال الأجهزة الرقمية وما يرتبط بها من عوالم افتراضية تغذيها شبكات معلوماتية ضخمة تتدفق من كل حدب وصوب.
ووفق هذا الأفق الكتابي، الذي يطغى على الثقافة المعاصرة، يمكن قراءة السؤال من خلال ارتباطه بمفهوم التغيير، حيث عمل التطور التقني المتعلق بمسألة الطباعة، على سبيل المثال على تسهيل تحرير الكتب وطباعتها ومن ثم انتشارها في أنحاء العالم وتلقيها عند الناس أيضاً بسهولة ويسر، بشكل لا سابق له. وبناء على ذلك جاء مفهوم التغيير في ارتباطه بالكتابة ضمن هذا الأفق أو التوجه العام، الذي تعيشه الثقافة المعاصرة في مستوى الطموحات.
لكن السؤال الذي طًرح على أمبرتو إيكو، والذي يصر على وصف نفسه بأنه «فيلسوف» قبل كل شيء، ومن ثم تأتي صفته أديباً. وفق ما اعترف به لمدير صحيفة لوموند اريك فوتوريني، قبل عدة سنوات، فيه شيء من الاستفهام التشكيكي. فإن كان قد امتنع عن ربط التغيير بالحاضر، فقد ألحقه بالمستقبل وفق التجربة الفردية، التي يعيشها الفرد مع كتاب ترك لديه أثراً في أعماقه. فالكتاب ليس مختبراً علمياً يمكن لنتائجه أن تَطبق حرفياً على أرض الواقع. بل هو إدراك للعالم والحياة، حيث يظل يختمر في التفكير، بفعل أفكار هذا الكتاب أو ذاك ببطء شديد حتى إذا ما اكتمل كان على الزمن أن يتقدم. هذا ما توحي به إجابة أمبرتو إيكو في شقها الأول. لكن ما لم يًجب عنه هو أن ظاهرة التغيير في الثقافة المعاصرة أصبحت هي الغاية والهدف في نفس الوقت، مفصولة عما يرتبط بها من ظواهر أخرى. أي إن التغيير أصبح مثل الطوفان، الذي اكتسح كل شيء في الحياة، وإذا ما توقفنا عند هذه العبارة فقط، لقلنا إن التغيير سنة طبيعية في الحياة. لكن ما يجعله شبيهاً بالطوفان هو ما يمتاز به بالسرعة الفائقة، التي تتجاوز فيها من التأثير الفردي إلى التأثير الجماعي. لذلك فإن التجربة الفردية مع الكتاب في مسألة التغيير مقارنة بما يحدث من تغيير في كل مجالات الحياة تظل محدودة.
بيد أنه ومن جانب آخر فيما يخص مسألة التغيير، يوحي من اشتهر عنه أنه مدجج بالثقافة الموسوعية والمعرفة الفلسفية والتحصيل اللغوي والمهارة السيميائية والألغاز الكهنوتية إلى أن الكتاب الذي يغير من طريقة تفكير الفرد المثقف ليس بالضرورة أن يملك حلولاً لمشكلات العالم. وهذا يعني فيما يعنيه أن الأفكار مهما غيّرت من طريقة تفكير الفرد إلا أنها تظل أفكاراً، لا تملك مختبر الحياة، لأن الفرد المثقف نفسه أو غير المثقف يخضع لتأثيرات التجربة الحياتية، كما يخضع للأفكار نفسها، والصراع ما بينهما هو الذي يصنع بالتالي شخصية الفرد مهما كانت صفته.
بينما في لقاء أجراه معه مدير تحرير صحيفة لو موند الفرنسية أيضاً، والذي وصفه بالسعادة الخالصة. طرح أمبرتو إيكو تساؤلاته حول الهشاشة المتزايدة في وسائل المعرفة والمعلومة (المرنة) يقول «الكتابة هي طريقة لقول شيء ذي معنى وأنت على طبيعتك. لست بحاجة إلى أن تكون شجاعاً عندما تكتب، عليك أن تقر بأنك مرعوب وأن تفعل ذلك على أي حال.»
العدد 1100 – التاريخ: 21 – 6 – 2022