الثورة-أديب مخزوم:
مرت في 17 كانون الأول 2022 الذكرى السنوية العشرين لرحيل الفنان التشكيلي مصطفى الحلاج ( الملقب بشيخ الفنانين ) والذي اعتمد في لوحاته، على الكثير من العناصر التقنية ، على الرغم من أنه كان يركز في أكثر الأحيان على تقنية الحفر والطباعة (الغرافيك) في صياغة عناصر لوحاته البانورامية، حيث كان يذهب في كل مرة نحو تركيب عناصر مختلفة في اللوحة الواحدة (الحصان، المرأة، السمكة، الطير، الطفل..) للوصول إلى مناخات خيالية مستشفة من أجواء معطيات الرؤى الأسطورية، ففي لوحاته ملامح كثيرة من الأشكال الخرافية والمثولوجية والتي تشبه في فصول تحولاتها ومفارقاتها حكايات الأحداث الجسيمة المتتالية والغريبة والمتناقضة والتي نعيش فصولها اليومية من دون أن ندرك تحليل ألغازها تماماً كلوحاته التي تأخذ تفسيرات وتأويلات وإيحاءات ودلالات كثيرة. ويلعب الخط دوراً أساسياً في تأليف اللوحة، وبالتالي في إبراز موقفه الإنساني الشامل ضد الظلم والأوجاع والعدوان ولقد كان يضع اللون على اللوحة بتقشف واضح حيث تبقى القيمة الفنية مرتكزة على مقدرته في امتلاك حيوية الخط الذي يحدد به الأشكال الواقعية والأسطورية، التي تفسر معالم ودلالات واقعنا الراهن في تناقضاته الصارخة والحادة .
وهذا يعني أنه كان فنان خط وليس فنان لون، حيث كانت لوحاته ترتكز على خطوطه اللينة والبارعة في تحديد الأشكال الإنسانية والحيوانية، التي كان يولفها بطريقة خيالية تبتعد عن الواقع وتعبر عنه بذات الوقت .
هكذا كان يرتكز على حركة خط الرسم في تحديد أشكاله، لكن هذا الخط يبتعد بدوره عن الأناقة الصالونية ، فلا يكون عنصراً هادفاً إلى تأدية الصورة الخيالية بطريقة استعراضية، إنما يتحرك بشكل عفوي وفطري أحياناً ، في معالجة الأشكال والرموز والعناصر المختلفة المرتبطة بالأرض وبتطلعات الثورة. وهنا يقترب من اللغة التشكيلية المعاصرة من خلال التداخل الذي يحدثه بين الموضوعية وبين التعبيرية الخيالية والأسطورية، ومن جهة أخرى يرتد إلى لغة الفن الحديث حين يعتمد على حركة الرسم العفوي والتلقائي في معالجة الأشكال وتوليف العناصر والرموز الغرائبية والحكائية المقروءة عبر التتابع البانورامي للرموز المكثفة في اللوحة الواحدة .
ولقد استعاد في لوحات محفوراته البانورامية الكبيرة إشارات الأحلام الحديثة المتكسرة القادمة من رواسب الإحساس بالاضطهاد والمرارة والألم في أزمنة الحروب والخيبات، دون أن يفقد الأمل بعودة الحياة إلى الأرض المحروقة والمستباحة. فقد أعاد استلهام بعض عناصر الواقع والتاريخ وقام بتوليف الأشكال بطريقة خيالية غير واقعية كمنطلق للمجاهرة بتداعيات الرؤى الغرائبية والخيالية والخرافية.
أنها مجموعة اجتهادات لذهنية تبحث عن معالم التشكيل في العودة إلى تداعيات ما ترسخ في الوجدان والذاكرة الإنسانية من رؤى ومعطيات وتجليات تزيد من حدة صدقنا بعالم اليوم اللاإنساني وبالوضع المأساوي وبالتالي تعبّر عن نقمته من أزمنة الحروب المعاصرة التي تسجل أصعب حالات الموت في المدن المدمرة والمحروقة بزلازل ونيران الحروب المتعاقبة دون نهاية.
هكذا أظهر تعاطفه الدائم مع الإنسان الباحث عن ولادة جديدة تنشد الحرية والسلام والخلاص من مأساة الحياة الراهنة المتشحة بسواد الحرائق وآثار القذائف المتفجرة بقوة مضاعفة، تجسد المشاهد المفجعة وأشلاء الجثث ولحظات الاقتلاع والتهجير والتشرد.
يذكر أن مصطفى الحلاج من مواليد فلسطين عام 1938، وكان من سكان دمشق، ولقد درس الفن في القاهرة وشارك في تظاهرات ومعارض فنية عربية ودولية، وحاز على العديد من الجوائز التقديرية من بيناليات عالمية وعربية. ولقد رحل في 17 كانون الاول 2002على إثر حريق مفجع أندلع في محترفه بدمشق، وزاد من أحزمة البؤس في حياته ومماته. هو الذي برز ومنذ البداية كفنان ملتزم بهموم الإنسان المستلب وتطلعاته وكان شعاره الدائم «يجب توظيف الفن في خدمة المعركة» لأن الفن وجد من أجل الناس ، ومن أجل المساهمة في معركة النضال وبناء المستقبل.