الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
شهدت مختلف العصور والأحقاب الزمنية تدوين الإنسان لمجريات حياته وتفكيره وإبداعه ومقتنياته وآثاره، فقام بشكل عفوي أحياناً، أو بشكل مدروس أحياناً أخرى بتوثيق ذلك على جدران المعابد والمسلّات والنصب التذكارية ومداخل القصور والبوابات والعملات، أو الأدوات التي كان يستخدمها، فكانت التماثيل والنقوش والأدوات والرسومات التي توضّح ماهيٍة الحياة وظروفها في تلك المرحلة.
مع تطور الزمن وتطور التفكير بدأ الإنسان بتوثيق كلّ ما يحيط به، وفق أسس علميّة ومنطقية، ولم يقتصر ذلك على الجانب المادي، بل شمل الجانب اللامادي من أغان وأهاذيج وحكايات وغيرها من رموز تعبر عن الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية و…
ولأنّ التوثيق ذاكرة وطنية تعزّز الهويّة والانتماء لدى الأجيال المتعاقبة وتربط ماضيها بحاضرها ومستقبلها، فقد تم الاشتغال على هذا الجانب عند مختلف شعوب العالم نظراً لأهميته في الحفاظ على التراث، والذاكرة الجمعيّة بكل ما تحتويه من فنون وآداب وإبداعات ومعاهدات ووثائق، فكانت المكتبات الوطنيّة الضخمة والمتاحف الوطنية التاريخية والشعبية، ومراكز التوثيق والأرشيف الوطني، وهذا بمجمله يعزّز التواصل الحضاري بين مختلف الأجيال.
والتوثيق لم يظهر فجأة أو شمل مرحلة زمنيّة محددة، ولا هو عملية يقوم بها فرد أو مجموعة أفراد، بل هو عملية متكاملة وشاملة ومستمرة، يضطلع بها كل المجتمع بمختلف اختصاصاته والتي تشكل الذاكرة الوطنية، وتحدد الهويّة الوطنية لهذا المجتمع أو ذاك.
ومن يقرأ التاريخ يجد أن العرب وعبر تاريخهم الطويل اهتموا بالتوثيق سواء المادي أم الشفوي وإلا لما وصلت إلينا المعلقات الشعرية والمعاهدات السياسية والنوتات الموسيقية والأختام الحجرية، وأنماط الحياة وطرق العيش والتنوع في المسكن والمأكل والمشرب و…
ويعكس التوثيق حالة متقدمة من الوعي لأهمية التطور التاريخي للبلد وتسلسل الأحداث، وأهمية التراث والموروث الشعبي بشقيه المادي والشفهي ونقله بأمانة للأجيال المتعاقبة كونه يعبر عن الهوية الوطنية والانتماء الوطني.
إنّ توثيق الذاكرة الوطنية بما تحتويه من آثار ومقتنيات وأدوات وتراث دفع بالعديد من الجهات عالمياً وعربياً ومحلياً إلى إيلاء هذا الجانب جلً الاهتمام وتوظيف التطور العلمي لحماية هذا التراث كونه يشكلّ جزءاً من التراث العالمي والإنساني …
وضمن هذا السياق تم تشكيل مراكز توثيق على مستوى سورية تعمل بالتنسيق مع جهات عدة تتقاطع فيما بينها، فكانت المتاحف مثل: المتحف الوطني بدمشق والمتحف الحربي والذي يوثّق لمختلف الحروب والمعارك والانتصارت للشعب العربي السوري، كما تم إحداث مكتبة الأسد التي تعد من أضخم المكتبات في الشرق الأوسط من حيث المساحة والمقتنيات وطريقة التوثيق والأنشطة الموازية، كم تم الاهتمام بالمتاحف الشعبية في المحافظات وتوثيق مختلف المناشط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتي تعبر عن هوية المحافظة وموقعها ونشاطها في مختلف الميادين..
بالمناسبة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي زرت متحف الرقة للفنون الشعبية والذي يضم أجنحة متنوعة تعكس نمط حياة أبناء المنطقة وطريقة عيشهم وأزيائهم الشعبية وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…ويمكن لأي زائر ومن خلال زيارته الأولى أن يكوّن صورة متكاملة عن مقومات الحياة والعيش في هذه المنطقة على نهر الفرات.
كذلك في عام ٢٠١١ قمت ومجموعة من الأصدقاء مع أسرنا برحلة إلى متحف تدمر الوطني، وقد كانت دهشتنا كبيرة لضخامته وإتساعه وتنوع مقتنياته، والتي تعود لعصور تاريخية متعاقبة، ولما يحويه من تماثيل كاملة ونصفية ورأسية ولقى أثرية ولوحات حجرية بدءاً من مدخله والذي يعطي انطباعاً رائعاً لأهمية تدمر ومكانتها ومكانة ملكتها زنوبيا ليس لسورية فحسب إنما للحضارة الإنسانية جمعاء …
ولأنها بوابة الحضارة وينبوعها المتدفق كان التدمير والعبث وسرقة الآثار من أولى مهام دعاة الديمقراطيّة والحرية حيث عاثوا في متحفها خراباً وتدميراً، وسرقوا رموزها وحطموا تماثيلها وقتلوا بدم بارد مدير آثارها خالد الأسعد والذي يعد من أبرز العاملين في حقل الآثار …
ومن أهداف ما ارتكبه الإرهابيون مسح الذاكرة الوطنية وضرب المنظومة الفكرية والأخلاقية لأجيالٍ تربّت على الوطنية وحب الوطن.
إن إحياء التراث وصونه وحمايته وتوثيقه وفق أسس علمية تعتمد منهج البحث العلمي وتوظيف التقانة الحديثة أو ما يُعرف بالتوثيق الرقمي، مسؤولية جماعية تبدأ بمؤسسات الدولة ذات الصلة بالتعاون مع المجتمع الأهلي والأفراد ضمن خطة متكاملة يتم فيها تحديد المهام والمسؤوليات، والعمل على إحياء الذاكرة الوطنية من خلال تضمين المناهج التربوية مقررات تحضّ على ذلك وتعزز في نفوس الناشئة الاهتمام والحرص بالتراث المادي والمعنوي، وتشجيع الرحلات العلمية للمواقع الأثرية والتاريخية وربطها بالمناهج الدراسية ووضع الخطط اللازمة لتحقيق أهدافها التربوية والمعرفيّة.
قولاً واحداً التوثيق عمل متكامل، ومهمة وطنية تهدف إلى صون التراث وحمايته من التشتت والضياع وإعادة إحياء الذاكرة الوطنية وربط الماضي بالحاضر وتعميق مسالة الانتماء في عقول الناشئة والاعتزاز بما تركه الأسلاف من إنجازات وإبداعات تشكّل مع غيرها التراث الإنساني في شتّى المجالات.
العدد 1147 – 13-6-2023