الثورة – إعداد ياسر حمزة:
هوايات.. للذاكرة ونافذة إلى العالم.. غالباً ما نسمع عبارات مثل “المطالعة، المشي، متابعة المباريات الرياضية، السباحة، الشطرنج” ولكن عندما كان يُطرح هذا السؤال قبل أربعة أو خمسة عقود من الزمن، كان الجواب غالباً “جمع الطوابع، النقود الأجنبية، الفراشات، البطاقات البريدية، ..” وهذا ما لم نعد نسمعه اليوم وكأن الهوايات الجميلة انقرضت.
وهنا نجد نوعين من الهوايات:
– الهوايات الجميلة وهي الهوايات التي يمكن لأي كان أن يمارسها اعتماداً على ما توفره دورة الحياة وحركتها في محيطه، ولا تشترط قدرات مالية ملحوظة مثل جمع الطوابع، النقود الأجنبية، الملصقات، الفراشات، الأصداف البحرية.
– الهوايات الاستثمارية، نظراً للقدرات المالية الضخمة التي تتطلبها، بحيث أنها تبقى حكراً على الأثرياء مثل جمع اللوحات الفنية والتحف الأثرية والمخطوطات والأحجار الكريمة وما شابه.
والواقع إن الحدود الفاصلة بين هذين النوعين من الهوايات غير محددة بدقة, إذ يمكن للهواية الجميلة أن تتحول بمرور الوقت وتنامي الاهتمام بها إلى هواية استثمارية.
فكل جامع طوابع يحلم بأن تضم مجموعته طوابع نادرة وباهظة الثمن، وعندما يشتري مجموعة صغيرة ليضمها إلى مجموعته يحلم بأن يكون من ضمنها الطابع – الثروة.
كما أن جامع النقود القديمة الذي قد يكتفي في مرحلة أوليّة بجمع القطع التي بطل استعمالها منذ سنوات قليلة، قد ينجرف بمرور الوقت وتنامي قدراته المالية إلى اقتناء العملات الأثرية النادرة وغالية الثمن.
ففي القرن التاسع عشر الميلادي ومع تطور علم الأحياء ظهرت هوايات مثل جمع الأصداف البحرية والفراشات والنباتات المجففة.
وعندما ظهر الطابع البريدي الأول في منتصف ذلك القرن توافرت مادة لهواية جديدة تأسست فعلاً وصار لها آلاف الهواة خلال أقل من عقدين، وأدى ظهور علم الآثار وتفجر الاهتمام الهائل بكل ما هو قديم إلى إطلاق هواية جمع النقود القديمة التي كانت زهيدة الثمن في سنواتها الأولى.
أما في القرن العشرين فإن تطور حركة النقل والسفر أسس لمجموعة هوايات جديدة لم تكن ممكنة سابقاً مثل النقود الأجنبية، البطاقات البريدية، علب الكبريت، التذكارات الفولكلورية وما شابه..
تثقيف واطلاع
الهواية الجميلة هي نافذة يطلّ منها الهاوي على العالم ويتواصل معه، فيسافر من خلالها إلى زوايا يستحيل عليه أن يصل إليها عبر وسائل أخرى, إنها وسيلة تثقيف وتنوير بالغة الأهمية ,ولنأخذ طوابع البريد مثلاً وفي أكثر أشكاله بساطة.
ينتزع الهاوي الطوابع عن الرسائل ويجمعها في “ألبوم” مخصصاً مساحة معينة لطوابع كل دولة على حده.
ولأن قانون هذه الهواية يقول إنه يجب أن يكون كل طابع مختلفاً عن الآخر وأن يكون سليماً تماماً، ولأن الاختلافات تكون أحياناً في نطاقات ضيقّة جداً مثل اللون أو السعر فهو مضطّر إلى أن يتطلّع إلى كل طابع بإمعان وأن يدقّق فيه.
ولكنه خلال هذا التدقيق يطلّع على ما هو أكثر من حالة الطابع ونوعيته. فدول العالم تحمّل طوابعها صور شخصياتها التاريخية والوطنية والثقافية الكبرى، وصور معالمها الجغرافية والاقتصادية والسياحية، وإشارات إلى مناسبات علمية أو اجتماعية أو وطنية.. وعَرَضاً أكثر مما هو عمداً يطلّع الهاوي على كل هذه المعلومات.
معلومات أوليّة.. ولكنها شاملة وذات تنوّع في “الألبوم” الواحد أكثر مما هي عليه في عشرات الكتب.. وبارتقاء سلّم الهواية قليلاً، يشتري الهاوي مجلة متخصصة في الطوابع.
فيطلع منها بتفصيل أكبر عن المناسبة التاريخية التي كانت وراء إصدار هذا الطابع أو ذاك.. كما أن جمع النقود القديمة يدفع الهاوي خلال ترتيب مجموعته أو تقييم كل قطعة جديدة إلى مراجعة التاريخ.. وهكذا.
إن “وقت الفراغ” الذي تحتاجه الهواية هو في الواقع وقت تثقيف واطلاع يكمل على أفضل وجه المهمة التي يتولاها التعليم.
بين الأمس واليوم..
إن العصر الذهبي لهذه الهوايات كان عالمياً خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين الميلادي.
أما اليوم، فإن نظرة خاطفة على اهتمامات الشبان (وحتى من هم أقل شباباً) تؤكد انحساراً واضحاً للاهتمام بالهواية الجميلة، وهذا الانحسار يصل إلى حدود الغياب التام عند بعض الشرائح الاجتماعية.
ومن المدهش أن بعض شبان اليوم لا يعرفون أن طوابع البريد يمكن أن تكون مادة للجمع!!
الاهتمامات التي تملأ الفراغات في أوقات شبان اليوم كثيرة: الرياضة (متابعة أكثر مما هي ممارسة)، الانترنت، الموسيقا وغيرها. ولكن الهواية كما عرفت خلال العقود القليلة الماضية تبدو غائبة عن هذه اللائحة.
عوامل التغيير
يحاول الكثيرون قراءة انحسار الهواية الجميلة على ضوء المتغيرات التي طرأت على حياتنا الاجتماعية.
من أبرز هذه المتغيرات تنوع المنافذ على المعرفة والتواصل مع العالم، فوسائل الاتصال الحديثة من تلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعية الأخرى أفقدت المعلومة المتوافرة على طابع البريد بريقها، وصارت تُزاحمها، بحيث أن الدخول الى الانترنت صار يؤمّن تنوعاً في المعلومات مماثلاً لتنوع المعلومات التي تحملها صفحة من “ألبوم” الطوابع.
والأمر الآخر هو تغيّر نمط الحياة اليومية، والمسألة لا تكمن هنا في توافر وقت الفراغ الضروري للهواية، ولكن في فقدان الاستقرار المكاني خلال أوقات الفراغ. فالملاحظ أن شبان اليوم يمضون في منازلهم أوقاتاً أقل بكثير من تلك التي كان يمضيها آباؤهم خلال أوقات فراغهم.. في حين أن تمضية بعض وقت الفراغ في المنزل يعتبر شرطاً لا غنى عنه للاهتمام بالهواية الجميلة وصيانتها وتغذيتها.
إلى ذلك يمكننا أن نضيف عاملاً نفسياً عاماً، يكمن في أن الهواية تحتاج إلى تركيز ذهني وعاطفي من قبل الهاوي.
في حين أن الحياة الحديثة بمعطياتها الثقافية والمعيشية اليومية تجذب انتباه الفرد في اتجاهات مختلفة ومتتابعة من دون انقطاع.
فمن ملاحقة الأخبار السياسية العالمية إلى الأحداث الاجتماعية، إلى الجديد في عالم الاختراعات والأدوات الاستهلاكية.. هناك جديد في كل لحظة يشدّ انتباه الفرد ويدعوه إلى اتخاذ موقف منه، بحيث أن التركيز على الهواية الجميلة الصامتة التي تستوجب الاهتمام المتواصل وببطء، صار اليوم أصعب بكثير مما كان عليه قبل أربعين سنة أو خمسين عاماً.
الهوايات تقضي على نفسها
إضافة إلى ذلك، هناك عوامل أدت إلى انحسار الهوايات الجميلة, ومن أبرزها العامل الاقتصادي.
فمن المفترض في ارتفاع دخل الفرد مثلاً خلال انتقاله من فتوّته وشبابه إلى سنّ الإنتاج والعمل أن يزيد من اهتمامه بهوايته الجميلة ويسهل عليه تنميتها.
ولكننا نجد هنا أن ارتفاع دخل الفرد يتلاقى مع عوامل تجارية مختلفة تذهب به في واحد من اتجاهين: إما الإشاحة بنظره نهائياً عن هوايته، وإما التحول بها إلى هواية استثمارية، أي إلى ميدان يودع فيه أمواله أملاً في أن يحصل لاحقاً على عائدٍ أكبر.
والانترنت الذي نافس الهواية الجميلة على وقت فراغ الفرد، ووفرّ مصدراً تثقيفياً وقنوات اتصال أقوى مع العالم، مازال يفتتح آفاقاً شاسعة أمام الهواة للاتصال ببعضهم وتبادل المعلومات.
وأخيراً.. هناك هوايات يرتبط عمرها بظروف تاريخية معينة، وتنقرض فعلاً بتغير هذه الظروف.
فمع الثورة العلمية التي شهدها القرن التاسع عشر وتزايد الاهتمام بالأبحاث العلمية، راجت في أوروبا هواية جمع أجنة الحيوانات المحنطة في أوعية زجاجية.
ولكن هذه الهواية انقرضت لاحقاً، بعدما انقلبت الدهشة والإثارة العلمية تقززاً من منظرها البشع الذي لا فائدة تثقيفية تُرجى منه.