هفاف ميهوب
ما يميّزها تعدّد إبداعاتها، وقدرتها على منحِ السيادة لكلّ ما تكتبه وترصّعه بثقافتها.. تهبُ القصيدة ألقها، والترجمة حرفيّتها وحقّها.. دؤوبةٌ على استغلال كلّ لحظة وكلّ وقت، لابتكارِ فنٍّ إبداعي جديد، قد تعلنّ عنه بجرأة، وقد تدع له مجال الإعلان عنها، وتتّبع صداه بصمت.
عزوفُ هذا الجيل عن القراءة سيخلق تدهوراً معرفيّاً وثقافيّاً وهشاشة في الوعي
إنها “ثراء الرومي”.. المبدعة التي حاورناها، فأغنت الحوار بكلماتٍ، عرّفتنا بها أكثر، ليكون ما قالته للقارئ قبلنا، ومُذ وجّهنا سؤالنا:
– كاتبة وشاعرة ومترجمة، هذا ما نعرفه عنك، فمن أنت غير كلّ هذا؟..
–أنا عاشقة للّغات التي حباني الله موهبة اكتسابها، وباحثةٌ تنهل من مَعين أكثر من لغة، مواطن جمال تتصيّدها بشغفٍ، وتفكّ عبرها شيفرات ثقافات أخرى، ليكون البحث الذي أقدّمه، نتاج رحلة مضنية أعود منها وقد اكتسبت معرفة تنسيني كلّ عذابات الطّريق. كما أنّني إنسانة تبحث عن الجمال، ليس بالمعنى الرّومانسيّ، بل بمعنى أنّني أجيد تحويل رماد لحظاتٍ احترقت، إلى لوحاتٍ فنّيّة، عبر اقتناص الإيجابيّة في أكثر منعطفات الحياة بشاعة..
باختصار.. أنا أهوى إذكاء الشّموع حيثما وجدت، ولست ممّن يكتفي بلعنِ الظّلام، فلو كنت ممن يستسلمون للخيبات، لجفّ مداد قلمي باكراً..
– ماذا تقولين عن تجربتك الفريدة مع القراءة؟.
–منذ سنواتي الأولى، غرست والدتي حبّ القراءة في نفسي، فكانت المجلات والقصص أثمن الهدايا التي برعت في تقديمها لي كمكافآت عزّ نظيرها. هذا الشّعور الذي يثلج الفؤاد، بات يتّخذ شكل فرحةٍ أكتسبها عبر إهداء الكتب للأطفال واليافعين، أوإقامة جلساتٍ قرائيّة يتفاعلون معها، ولعلّ أكثر مشاهد طفولتي سحراً، مكتبة إعارة متنقّلة كانت تجوب الأرياف. مازالت الخطوط الطوليّة العريضة المقلّمة، التي يتناوب فيها الأسود مع الأبيض على الحافلةِ الحلمِ، محفورة في ثنايا ذاكرتي، وسأبقى مَدينةً لأمين تلك المكتبة ما حييت، لأنّه كان يخصّني باستثناء استعارة العدد الذي أختاره من الكتب، في كلّ زيارةٍ نصف شهريّة للمكتبة، لأنّه لمس مدى اهتمامي.
كلّ هذا جعل منّي “أليس” أخرى، اختارت ألا تبرح مكتبة العجائب، وهذا ما استلهمت منه مقالاً على صفحات صحيفتكم الغالية ذات حنين.
– أيّ فنّ من الفنون التي تكتبين فيها يستهويك أكثر؟ وما هي رسالتك في كلّ فنّ منهم؟..
— قد تكون التّرجمة شغفي الذي لا أتخيّل حياتي من دونه، لكنّني منذ فتحت عينيّ على الحياة، والقلم والورقة رفيقا لحظاتي، ولست أنا من يقرّر القالب الذي ينسكب به إبداعي، فالمساحات المترامية التي تتيحها الرّواية، يضيق التّعبير ببعضها في القصّة القصيرة التي تعتمد مبدأ التّكثيف والإيجاز، وإن كان يجمعهما المساق الدّراميّ للفكرة، وعنصر المباغتة عبر النّهاية غير المتوقّعة، أمّا القصيدة فأعيش معها حالة تمسك بتلابيبي، ولا أملك منها فكاكاً إلّا حين ألبّي نداءها، وأسكبها على الورق حتّى يكتمل هطولها، قبل أن أحرّرها على لوحة المفاتيح.
– تكتبين للأطفال أيضاً… برأيك، هل يقرأ الأطفال في ظلّ هيمنة التّكنولوجيا وإدمانهم على أدواتها المرعبة؟
— لن أدّعي المثاليّة وأقول إنّ القراءة بخير، فهناك نسبة قليلة تقرأ. وهذا مرهونٌ بحرص الأهل على إيجاد حلٍّ وسط لهذه الظاهرة التي لا مفرّ منها، وزرع بذور اللّغة السّليمة والذّائقة النّاضجة في عقول أبنائهم. للأسف بات الأمر مقتصراً على تجاربٍ فرديّة، وأنا أنطلق من نفسي، وعدد قليل ممّن يشاركونني الإبداع والاهتمامات، فمن خلال حرصي الشّديد على إحاطة أطفالي بأجواءِ المطالعة، وغرسها في لاوعيهم، استطعت أن أنقل إليهم فرح اقتناء الكتب. وحقيقةً لم تكن مهمّة سهلة، فهم بالنّهاية مرآةٌ لجيل كامل، وأعاني ككلّ من حولي من إدمانهم الإلكترونيّ، لكنّ تدبّر الأمر يحتاج حكمة كبيرة.
– كيف ترين تأثير هذه الظّاهرة على مستقبل أجيالنا، مثلما على واقعنا، في ظلّ انحسار دور الثّقافة والكتاب والأسرة والمؤسّسات التّعليميّة والتّربويّة؟
— يؤسفني أنّ الجميع يلقي اللّوم على مفرزات العصر، ويتناسون دورهم الأهمّ الذي يشكّل حلقة في سلسلة متكاملة، تبدأ من الأسرة وصولاً إلى الرّوضة والمدرسة، والهيئات الثّقافيّة التي تحاول أن تمارس دورها.
المطلب الأكبر هنا، أن يُترك هامش كبير لمن يحملون على عاتقهم هذه الرّسالة بكلّ إخلاص، ليساهموا -رغم ندرتهم- في احتواء هذا الخطر الداّهم وإنقاذ ما أمكن، ولا بدّ هنا من دقّ ناقوس الخطر، من وجود جيل مغيّب لا يقرأ، فعزوف هذا الجيل عن القراءة، سيخلق تدهوراً معرفيّاً وثقافيّاً، وهشاشة في الوعي لا تُحمد عُقباها.
برأيك هل الشّعر والتّرجمة والأدب بخير في مجتمعنا، وكيف السّبيل لاسترجاع مكانة ودور كلّ منهم؟
قد يكون المدّعون والمتسلّقون كثر، لكن بوجود عدد من القيّمين على الثّقافة، في شتّى فروعها التي ذكرتِها، لست قلقة، وأشعر أنّه العصر الذّهبي_فكريّاً ومنهجيّاً على الأقلّ- في المؤسّسات الثّقافيّة التي تمثّل هذه الأنماط الإبداعيّة. لكنّني أتوجّه بهمسة في أذن بعض الجهات التي تتيح للمستسهلين اعتلاء المنابر، ومعهم حشدٌ هائل من جمهورهم الذي لا نجده عادةً في الأمسيات الأدبيّة النّوعية، وقسمٌ كبيرٌ منهم ينصب المرفوع ويجرّ المنصوب ويمرّغ اللّغة بالتّراب، وهذا الفرز يجب أن يندرج، على ما تحفل به كتب الأرصفة من إصدارات تجاريّة تشوّه معالم الإبداع.. أتوجّه بهمسة: التّحدّي كبير، ولا بدّ من التّحرّك لمواجهته في أكثر من مجال.
الكلمة الأخيرة لك.. ماذا تقولين فيها، ولمن توجّهيها؟
أتوّجه برسالتي إلى كلّ أم: “ليس بالضّرورة أن تكوني مبدعة أو كاتبة لتخلقي جيلاً مبدعاً أو حتّى سويّاً، كلّ ما عليك هو أن تسلّحي أطفالك بالقراءة، مهما كانت بعيدة عن اهتماماتهم. حاولي زرعها في وجدانهم، ولو اضطّررتِ لأن تقرئي لهم، أو أمامهم بصوتٍ عالٍ، اجعلي ذلك عادة يوميّة لوقت مهما كان قصيراً، وستجدين أنّك بهذا تكسبينهم الاهتمام من حيث لا يدرون، وربّما لا يرغبون، الأمر يحتاج الكثير من الصّبر والعناد، لكنّ الحصاد المنتظر يُغري بخوض التّجربة.
