الثورة – رنا بدري سلوم:
لم تنشف دماؤهم بعد، أولئك الذين بالأمس رووا الأرض فازدادت قداسة ونبلاً، والذين أريقت دماؤهم على مذابح الوطن منذ رسم حدوده وخارطته عبر التاريخ الذي يحتفي بذكراهم في السادس من أيار.
والشّهداء على مرّ العصور لا يزالون يخيطون جراح فقدهم في قلوب أحبّتهم، وإن نشفت تلك الدماء.. تبقى الصور والكُتب والذاكرة والتاريخ يشهد، فالوقت لا يكفل أن يهمد النار التي في الصدور، بقدر ما تمنحها الشّهادة وجهاً آخر للحياة متمثّلة بالشجاعة والإقدام والصبر، شهادة تنبع من عقيدة إيمانيّة متجذّرة في النفوس وإن اختلفت التسميات بين قتيل وشهيد وضحيّة.
مكرُمة الإسلام
إنّ العرب قبل الإسلام ما عرفوا الشهيد إلا بمعناه اللغوي والحضور، بينما الإسلام أثار فكرة الشهادة كجهادٍ أعظم يوصله إلى رضوان الله عز وجل، بحسب ما تقوله الأبحاث والدراسات الأدبيّة، ومن هنا كان لا بدّ أن ترتبط الحياة ارتباطاً وثيقاً بالشهادة.
إن الشهيد والشهادة لهما جذور إسلاميّة ظهرت مع ظهور الدين الإلهي وتزامنت مع موضوعات غير مسبوقة عليها كالجهاد والكفاح والدفاع عن العقيدة والفوز برضوان الله.
إنّ من أهم الدّوافع التي حثّت الشّعراء الإسلاميّين في أن ينشدوا أشعاراً حول الشّهداء والإشادة ببطولاتهم وتضحياتهم، هو الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة، التي هي ضمانة لوصوله إلی رضوان الله عز وجل، فاعتبر أن أهم بواعث الشهادة في العصر الإسلامي- وفقاً للدراسات التاريخيّة «الأول: العقيدة الإسلاميّة التي رسخت فيهم حب الشّهادة، الثاني: كان الأثر القيادي المهم الذي تبنّاه قادة جيوش المسلمين في تحريض جنودهم علی الفوز بالشّهادة، الجهاد في سبيل الله تعالی، ثالث: هذه البواعث لأنهم وجدوا فيه طريقاً سريعاً يقودهم إلی الجنّة».
وقد وثّقت الدّراسات الإسلامية أن كلمة شهيد ذكرت نحو 160 مرّة في القرآن الكريم، وذكرت أن الشّهيد من أسماء الله الحسنى، وله دلالة تختلف عمّا اصطلح عليه في المجتمع الإسلامي بعد وقوع الحروب، وهناك دراسات عديدة حول الشّهيد والشّهادة ضمن نماذج شعريّة في العصر الذي شهد الحضور النبوي، ودراسات أخرى تطرّقت إلى الآيات والروايات الإسلاميّة، ومن ثم في الشّعر الإسلامي، وبالتالي تناولت الخصائص الفنيّة الإبداعية لهذا النوع من الشعر.
انتصارات الشعر
وقد فعّل الشّعراء آنذاك أحاسيسهم وانفعالاتهم العاطفيّة، فكتبوا الكثير عن الشهيد، وعلى سبيل الذكر وليس الحصر في العصر الإسلامي حسان بن ثابت كان لا يقوى قلبه على الحرب، فاكتفى بالشعر وانتصر به، وسمي شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، كتب في قصيدة دالية، أولها:
أنا الفارس الحامي الذمار يقول:«ومنا قتيل الشعب أَوس بن ثابتٍ شهيداً وأسني الذكر ِّمني المشاهدُ
ومن جده الأدني أبي وابن أمه لام أبي ذاك الشّهيد المجاهد».
وبالعودة إلى عصرنا الحالي، نستذكر الشّاعر عمر أبو ريشة أيضاً الذي ارتبط اسمه بالنشيد العربي السوري اليوم أثناء انتصار الثورة السوريّة، وقد أكد في قصيدته أن الشّهادة ليست مرتبطة بأرض وحسب، بل هي وجه من وجوه العقيدة الإيمانيّة التي يستبسل من أجلها كلّ مؤمنٍ شريف في كل عصر.
« في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيد كلّنا ذو هِمة شَمّاء جبار عنيد.
لا نهاب الزمن.. إن سقانا المحن في سبيل الوطن.. كم قتيلٍ شهيد
هذه أوطاننا مثوى الجدود الأكرمين وسماها مَهبِط الإلهام والوحي المبين
ورُبَاها جنّة فتانة للناظرين كل شبر من ثراها دونه حبل الوريد».
هكذا نهج الشعراء نهج الإسلام في الشّهادة.. ولعل السّطور تضيق في ذكر الكثير من الشعر الذي أرّخ دماء الشّهداء قبل الإسلام وبعده، فإن كانت الدماء تنتصرّ لعقيدة ذاتيّة، فإن الشعر ينتصرُ لإرادة الحياة ويشعل ثورة الحريّة والحق في كل زمانٍ ومكان.